وضع الباحث والمستشرق الأميركي، مالكوم كير، في عام 1971، كتابه “الحرب الباردة العربية”، تناول فيه التنافس على زعامة العالم العربي خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي بين مصر بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر والسعودية بقيادة كل من الملكين سعود (1953 – 1964) ثم فيصل (1964 – 1975). استعرت الحرب الباردة العربية في ساحات عديدة، أهمها اثنتان، سورية واليمن، وفي الساحتين فازت السعودية، ففي سورية نجحت الرياض، بالتعاون مع الأردن، في إسقاط الوحدة السورية المصرية عن طريق مجموعة من الضباط في الجيش قاموا بحركة انفصالية في سبتمبر/ أيلول 1961، أدت الى خروج سورية من الجمهورية العربية المتحدة، وشكل ذلك حينها ضربةً كبيرة لقيادة مصر في العالم العربي. وفي اليمن، نجحت الرياض في إدارة حرب استنزاف ضد مصر التي دعمت انقلاب (ثورة) سبتمبر 1962 التي قادها ضباط (أحرار) في الجيش اليمني، وأطاحوا فيها حكم الإمام محمد البدر بن أحمد يحيى حميد الدين (آخر أئمة المملكة المتوكلية اليمنية). وعلى الرغم من أن السعودية لم تنجح في إعادة الإمام إلى الحكم، إلا أن حرب اليمن ساهمت بشدة في هزيمة مصر في حرب 1967، إذ كانت هذه تحتفظ بأكثر من نصف جيشها في اليمن (نحو 70 ألف مقاتل) ومتورّطة في حرب استنزاف أثرت بشدة في معنويات جيشها.
انتهت تلك المرحلة بانكفاء مصر واحتواء دورها، لكن الفراغ الذي خلّفه انحسار المد القومي العربي ملأته تيارات الإسلام السياسي التي اكتسبت زخما كبيرا بعد انتصار الثورة الإيرانية عام 1979، وقيام أول نظام سياسي يحكمه رجال دين في دولة معاصرة. وقد أدى ذلك، بطبيعة الحال، إلى استعار أوار التنافس الإقليمي من جديد بين “أيديولوجيا” إسلامية “محافظة”، تتمسّك بالوضع القائم، وتمثلها السعودية، وأيديولوجيا إسلامية “ثورية” أو “راديكالية”، تحاول تغيير الواقع الإقليمي وموازين القوى، عبر تصدير نفسها واستنساخ تجربتها في الجوار، وتمثلها إيران. ومن جديد، انتصرت السعودية في هذه المعركة، إذ استنفرت دول الخليج العربية كل إمكاناتها، ووقفت وراء العراق في حربٍ استغرقت ثماني سنوات، انتهت بإنهاك إيران ودفعها إلى التخلي، ولو مرحليا، عن طموحاتها الإقليمية.
بدأت، في عام 2011 مرحلة جديدة، عنوانها العريض ثورة الشعوب العربية على نظم الحكم الأوتوقراطية الفاشلة التي يحكم بعضها منذ الاستقلال. انقسمت المنطقة هذه المرة بين قوى ديمقراطية تسعى إلى التغيير وقوى غير ديمقراطية تسعى إلى منع التغيير. وقد ضم المعسكران قوى وتيارات سياسية وأيديولوجية مختلفة من اليمين واليسار. وبلغت المفارقة مبلغها في أن بعض هذه القوى كانت تدعم التغيير في مكان وتقاومه في مكان آخر، محدّدها الرئيس في ذلك توافق المصالح أو تنافرها، ففي سورية مثلا دعمت السعودية الثورة ضد نظام الأسد في حين رفضتها إيران، أما في البحرين فقد تدخلت السعودية عسكريا للقضاء على الانتفاضة التي دعمتها إيران. في ليبيا، ساهمت الامارات في إطاحة نظام معمر القذافي عسكريا، في حين أنها مولت، مع السعودية، الانقلاب العسكري الذي أطاح الرئيس المنتخب في مصر. انتهت هذه المرحلة بفوز القوى المناهضة للتغيير والديمقراطية، أي إيران والسعودية والإمارات، التي نجحت جهودها في المحصلة النهائية في منع (تأخير) التغيير، على الرغم من الصراع والتنافس بينها.
ولكن بخلاف المراحل السابقة التي احتدم فيها التنافس الإقليمي، خلّف الصراع هذه المرة دمارا اقتصاديا واجتماعيا هائلا، بسبب تحول الصراعات في دولٍ في المنطقة إلى حروب أهلية ممتدة، كما في سورية واليمن وليبيا، وتورّط كل من إيران والسعودية والإمارات بصورة مباشرة فيها.
في ظل الظروف الراهنة، يصعب تخيل قدرة هذه الأطراف على الاستمرار من دون أفق في سياساتها، وهي ستجد نفسها قريبا مضطرة إلى الانكفاء لتقليل خسائرها، فإيران لن تتحمّل، في ظروفها الصعبة، فاتورة بقاء النظام السوري معزولا ومحاصرا وسط الخراب والدمار. والسعودية لن تتمكن من تحقيق انتصارها الموعود في اليمن بعد خمس سنوات من بدايتها. أما ليبيا فتبدو بعيدة جدا حتى تُحدث الإمارات، مهما حاولت، فيها فرقا. وفي كل هذه الحالات، يبدو التغيير قادما، بل هو حتمي، إلى الأحسن أو إلى الأسوأ.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت