أسئلة عديدة تطرح مع تسارع خطوات التطبيع بين تركيا ونظام الأسد، التي تجسدت باجتماع موسكو الذي عقد في 28 من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وضمّ وزراء دفاع كل من تركيا وروسيا والنظام، إضافة إلى رؤساء الأجهزة الأمنية، وأعقبه إعلان وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، عن تفاهمه مع وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، حول عقد لقاء يجمعه مع وزير خارجية النظام الأسدي في النصف الثاني من شهر يناير/ كانون الثاني الجاري، وذلك تنفيذاً للخطة الثلاثية، التي اقترحها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على نظيره الروسي فلاديمير بوتين، ويبدو أن الأخير تبناها ويسعى إلى تنفيذ بنودها.
وتطول الأسئلة الغاية من تسارع خطوات التطبيع التركية، وطبيعتها، ومدى اتساقها مع العودة إلى سياسة تصفير المشكلات مع دول المنطقة الفاعلة، التي شملت تطبيع العلاقات مع السعودية والإمارات وإسرائيل ومصر، وعما إذا كانت تعكس تغيراً جذرياً في السياسة التركية حيال الملف السوري، أم أنها ليست أكثر من خطوات تكتيكية، ومرحلية، وتجد مبرراتها في حسابات الوضع الداخلي التركي.
ولا تنحصر أجوبة هذه الأسئلة بحسابات الوضع التركي الداخلي، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات التركية العامة المقرّرة إجراؤها في يونيو/ حزيران المقبل، بل تتعداها إلى حسابات المصالح الإستراتيجية، التي تخص وضع تركيا الاقتصادي وتموضعها ودورها الإقليمي، وإلى حسابات التنافس مع أجندات القوى الدولية المتدخلة في الشأن السوري وذات النفوذ على الأرض. إضافة إلى الهواجس الأمنية للدولة التركية، حيث ترى القيادة التركية أن الولايات المتحدة، وتحت يافطة محاربة تنظيم الدولة (داعش)، تستهدف أمن تركيا وسلامة أراضيها، وذلك من خلال دعمها قيام كيان كردي معاد لها في مناطق الشمال السوري، التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، ومكونها الأساسي وحدات حماية الشعب الكردية، التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، الذي تعتبره أنقرة منظمة إرهابية، وتصفه بالذراع السوري لحزب العمال الكردستاني التركي.
ومعلوم أن النظام الروسي يحاول منذ سنوات إعادة تأهيل نظام الأسد الإجرامي على المستويين العربي والدولي، والدفع باتجاه عقد مصالحة تركية مع نظام الأسد، لكن القيادة التركية آثرت التنسيق والتفاهم مع كل من روسيا وإيران ضمن مسار أستانا واللجنة الدستورية. كما أن الرئيس أردوغان، سبق أن كشف في مطلع أغسطس/ آب الماضي أن الرئيس بوتين، دعاه خلال لقائهما في منتجع سوتشي الروسي، إلى التعاون مع نظام الأسد من أجل حلّ الأزمة السورية.
غير أن تزامن تسارع خطوات التطبيع والمصالحة مع نظام الأسد مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية، يشي بأن الدافع الرئيس لها هو حسابات انتخابية، خاصة أن أحزاب المعارضة التركية طرحت مبكراً، في البازار الانتخابي، ورقة التقارب مع نظام الأسد، والتفاهم معه من أجل إعادة ملايين اللاجئين السوريين إلى بلادهم “بالطبل والزمر”، وعليه يريد حزب العدالة والتنمية سحب هذه الورقة من يد المعارضة التركية، كي يقطع الطريق أمام إمكانية استثمارها ضده في حملاتها الانتخابية.
ويجد المتابع للشأن التركي أن تعامل الحكومة التركية مع القضية السورية شهد استدارة كبيرة بدأت مع نهاية العام 2016، وجسدتها التفاهمات التركية الروسية، سواء على المستوى الميداني، أم على المستوى السياسي، حيث تحولت تركيا إلى دولة راعية، إلى جانب كل من روسيا وإيران، في مسار أستانا واتفاقات سوتشي مع الطرف الروسي، وتولت ضمان تنفيذ المعارضة لكل مخرجات أستانا وسوتشي. ومنذ ذلك الوقت، بات الهاجس الأساسي لتركيا في الملف السوري يتركز على مسألة منع قيام كيان لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ومخرجاته العسكرية والأمنية على حدودها الجنوبية. ولأجل تحقيق ذلك، تفاهمت تركيا مع الساسة الروس، ومع إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، بشن ثلاث عمليات عسكرية في الشمال السوري، وما تزال تهدد بشن عملية عسكرية جديدة، لكنها لم تحظ هذه المرة بقبول روسي وأميركي.
ولا شك في أن حسابات المصالح تدخل بقوة في مسألة تطبيع العلاقات التركية مع نظام الأسد، فنظام الأسد يريد توظيف الخطوات التركية على المستوى السياسي في فك عزلته الدولية، وأن يستفيد على المستوى الاقتصادي، خاصة وأنه يخضع لعقوبات أميركية وأوروبية، وغير قادر على تأمين الحاجات والمواد الأساسية للسوريين في مناطق سيطرته، في حين تريد تركيا بدورها أن ينخرط النظام في تلبية شروطها، ليس فقط في مسألة إعادة اللاجئين السوريين، بل في مسألة التعاون لإنهاء سيطرة قوات سوريا الديمقراطية في منطقتي تل رفعت ومنبج، وفي منطقة شرقي نهر الفرات، بل والإسهام في إنهاء الوجود الأميركي الداعم لها في منطقة الجزيرة السورية. وهو أمر يلتقي مع رغبات كل من روسيا وإيران ونظام الأسد، التي تصف وجود القوات الأميركية في سوريا باللا شرعي.
وقوبلت دعوات المصالحة مع الأسد برفض شعبي في المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد، وهو ما استدعى عقد اجتماعات بين ممثلين عن تشكيلات المعارضة ووزير الخارجية التركي، الذي أكد أن الخطوات التركية حيال النظام لن تكون على حساب التخلي عن المعارضة، وأنها تصب في إطار البحث عن حل سياسي وفق القرار 2254، لكن ليس هناك ما يضمن انخراط النظام بأي مبادرة تهدف إلى إيجاد حل سياسي، فضلاً عن أن تجاوبه مع خطوات التطبيع التركية لا يعني قبول ما تقوله تركيا والدخول في تسوية حقيقية، لذلك طالب أردوغان، خلال اتصاله مع بوتين، نظام الأسد بأن “يكون بناءً أكثر، وأن يتخذ بعض الخطوات في العملية السياسية من أجل الحصول على نتائج ملموسة فيما يخص الأزمة السورية”. وهو أمر لا يتماشى مع طبيعة نظام الأسد، ولا مع حلفائه، الذين يرون في التسوية السياسية العودة إلى سوريا ما قبل ثورة آذار 2011، وأن يبقى الأسد إلى الأبد.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت