على مدى أكثر من عقدين، والعالم الإسلامي (قوى وتيارات وحكومات فيه) يقدّم من حيث لا يقصد، وأحيانًا من حيث لا يدري، خدماتٍ جليلة لكل من الصين وروسيا، ويتلقّى حتى ضربات موجعة نيابة عنهما. في مطلع العام 2001، عندما بدأت الولايات المتحدة، مع وصول إدارة جورج بوش الابن إلى الحكم، تتنبّه إلى مخاطر صعود الصين، وتنظر إليها باعتبارها التحدّي الاستراتيجي الأكبر الذي يواجهها في القرن الحادي والعشرين، متجاهلةً طروحات “الخطر الإسلامي” التي كان يرفعها أصدقاء إسرائيل في واشنطن، وقعت هجمات 11 سبتمبر (2001)، وتغيّرت على الأثر كل توجّهات الولايات المتحدة العالمية، لتصبّ جام غضبها على العالم العربي – الإسلامي، وتطلق سلسلة حروب فيه استمرّت عقدين، بدأت بغزو أفغانستان في أكتوبر/ تشرين الأول 2001، وانتهت بالانسحاب منها في أغسطس/ آب، وبينهما خاضت الولايات المتحدة في دماء العالم العربي – الإسلامي تحت مسمّى “الحرب على الإرهاب”. خلال هذين العقدين، استفادت الصين بشدّة من انصراف الولايات المتحدة عنها لبناء قوة اقتصادية وعسكرية جعلتها اليوم تتبوأ المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة. ويتوقع كثيرون أن تتجاوزها في مرحلة ما خلال القرن الجاري. عندما استيقظت الولايات المتحدة على التقدّم الذي حققته الصين في غفلة منها، في عهد أوباما، الذي قرّر الانسحاب من العالم الإسلامي مطلقًا استراتيجية التمحور حول آسيا (Pivot to Asia) لمحاصرة الصين، برز تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، واستولى على مساحات واسعة من العراق والشام، وأعاد الولايات المتحدة إلى حروب العالم الإسلامي تحت مسمّى أضيق، وهو “الحرب على داعش” (2014 – 2019).
استفادت روسيا أيضا كثيرا من تورّط أميركا في العالم الإسلامي، وجنت مكاسب كبيرة بين غزو العراق (2003) وانطلاق الحرب على “داعش” (2014). وتمثّل أحد أبرز مظاهر الاستفادة الروسية في ارتفاع أسعار النفط، نتيجة تعطّل صناعة النفط العراقية، بسبب الحصار والغزو من جهة، والعقوبات المشدّدة التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران، لدفعها إلى التفاوض على برنامجها النووي، من جهة ثانية، خصوصا بعد صدور قرار مجلس الأمن 1929 لعام 2010، والذي صوّتت روسيا الى جانبه، لفرض عقوباتٍ غير مسبوقة على إيران. وقد جنت روسيا مئات مليارات الدولارات خلال عقد من ارتفاع أسعار النفط، ما ساعدها على تسديد فاتورة ديونها الكبيرة حينئذ، وإعادة بناء مكانتها في سوق الطاقة العالمي، وإطلاق برنامج لتحديث قواتها المسلحة التي انهارت قدراتها خلال التسعينات، على ما دلّت عليه حرب الشيشان الأولى (1993-1996). كما استغلت روسيا كذلك انشغال الولايات المتحدة عنها لتغزو جورجيا عام 2008، وتضمّ شبه جزيرة القرم عام 2014، وتتدخّل عسكريا في سورية عام 2015.
في عام 2021 جاءت إدارة بايدن الى السلطة، واهتمامها منصبٌّ على الخروج من العالم الإسلامي، واستعادة التركيز على الصين، وبدرجة أقلّ روسيا. وبالفعل، قرّرت واشنطن الانسحاب من أفغانستان، حتى لو كان الثمن عودة هذه الأخيرة إلى مربّع عام 2001 (عودة حركة طالبان إلى السلطة). كما دخلت في مفاوضات مع إيران، لاستعادة العمل باتفاق 2015 النووي على أمل تحقيق استقرار نسبي في منطقة الخليج والشرق الأوسط، يسمح لها بنقل كل اهتماماتها إلى منطقة الإندوباسيفيك. وعندما ارتكبت موسكو أول أخطائها، بعد وصول بايدن الى الحكم، بغزوها أوكرانيا، استغلّت واشنطن ذلك، لإلحاق هزيمة استراتيجية بها وتدفيعها فاتورة عقدين من عدم المحاسبة. وفيما كانت واشنطن تنقل تركيزها مطمئنةً من الشرق الأوسط إلى شرق آسيا، معتقدة بإمكانية دمج إسرائيل في المنطقة العربية عبر ما تسمّى “الاتفاقات الابراهيمية” التي تقوم على التطبيع بين العرب وإسرائيل، بمعزل عن حل القضية الفلسطينية، وقعت أحداث 7 أكتوبر.
جاءت أحداث غزّة بمثابة مفاجأة سارّة غير متوقعة لموسكو وبكين، وكانت كل منهما تئنّ تحت وطأة الضغوط الأميركية، لتعطّل كل خطط بايدن للخروج من الشرق الأوسط (حيث يجب أن تبقى أميركا عالقة). حوّلت واشنطن الذخائر التي كانت في طريقها من أوكرانيا إلى إسرائيل، لتسقط على غزّة بدلا من الجزء الروسي في أوكرانيا، فيما اتّجهت حاملات الطائرات الأميركية من بحر الصين، لتتمركز في الخليج وشرق المتوسط. ولو أنفقت روسيا والصين الدهر بعد هذا في شكرنا فلن توفينا شيئًا من حقّنا.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت