لم يتوان نظام الأسد خلال السنوات العشر الماضية عن إجراء كل استحقاقاته الانتخابية، سواء الرئاسية منها أم انتخابات المجالس المحلية والبرلمانية، حتى في أحلك أيام المعارك، في رسالة يوحي بها بأنها صاحب الشرعية في قيادة دولة ذات سيادة، لها دستورها الذي ينص على إقامة الانتخابات في إطارها القانوني بشكل دوري، دون أن يأبه لوجود معارضة سياسية أو مسار حل سياسي بما في ذلك اجتماعات “اللجنة الدستورية”.
وبين آمال تعقدها المعارضة السورية التي تخوض غمار المفاوضات ضمن “اللجنة الدستورية” في جنيف، يؤكد رئيس النظام، بشار الأسد، وبصريح العبارة، أن “المفاوضات سوف تأخذ وقتاً طويلاً”، وأن ما تطلبه المعارضة من وضع دستور جديد يمهد لانتخابات حرة نزيهة تحت إشراف الأمم المتحدة، لن يتحقق ولن يقبل به.
ومنذ انطلاق الجولة الأولى من اجتماعات اللجنة الدستورية في أكتوبر/تشرين الأول 2019، وما رافقها عقب ذلك من مماطلة ووضع العراقيل من قبل نظام الأسد لعدم إنجاحها، فإن كافة التصريحات والسلوكيات الصادرة عن النظام، توحي بأنه يمضي في طريق حلٍ يُفصّلهُ، مُسايراً في التوازي، المجتمع الدولي، في الانخراط باجتماعات ومفاوضاتٍ لم تُفضي إلى إنضاج مسار الحل السياسي الذي يكثر الحديث عنه.
شروط “تعجيزية” تُمهّد لـ2021
ازدادت وتيرة التصريحات خلال الأشهر الماضية من قبل مسؤولي نظام الأسد حول انتخابات 2021، إذ لم يتركوا فرصة دون التأكيد على إجرائها وفق الدستور الحالي، ضاربين بعرض الحائط أي تحركات سياسية من قبل المجتمع الدولي، بهدف التوصل إلى دستور جديد في اجتماعات “اللجنة الدستورية”، ويمهد لانتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة.
آخر هذه التصريحات ما قاله الأسد في مقابلة مع قناة “زيفزدا” الروسية، الأحد الماضي، بأن “الأشياء التي يطلبونها تؤدي إلى إضعاف الدولة وتفكيكها، كما يحصل في مناطق مختلفة أخرى تتدخل فيها الولايات المتحدة وتضع دستوراً يؤدي للاضطراب والفوضى بدلاً من أن يؤدي للاستقرار، وهذا الشيء نحن لا نقبل به، ولا نفاوض حول أشياء تمس استقرار سورية”.
ما سبق هو تأكيد لما قاله الأسد، في 8 ديسمبر/تشرين الثاني العام الماضي، بأن “اللجنة الدستورية لا علاقة لها بموضوع الانتخابات، لها علاقة فقط بموضوع الدستور، أما إذا كانوا يعتقدون أنهم سيعودون إلى عصر الانتداب، فسأقول لهم، هذا لن يكون سوى في أحلامكم”.
تصريح الأسد لم يكن جديداً وإنما عبّر مراراً عن رفضه الاعتراف بأي قرار صادر حيال “اللجنة الدستورية”، واعتبار أن ما يجري في جنيف لا علاقة له بالانتخابات الرئاسية، كما أكده وزير خارجية النظام، وليد المعلم، خلال مؤتمر صحفي مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في دمشق، الشهر الماضي.
وقال المعلم إن “إجراء الانتخابات الرئاسية المقبلة في سورية ليس مرتبطاً بنشاط اللجنة الدستورية في جنيف”، مضيفاً أن الانتخابات الرئاسية في سورية ستعقد في موعدها في عام 2021، مشيراً إلى أن “أي مواطن لا يتعارض ترشيحه مع مقتضيات الدستور يمكنه المشاركة”.
أما وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف فاعتبر أن “الانتخابات قرار سيادي للجمهورية العربية السورية، وفي ظل النقاش حول الدستور ستستمر بتطبيق الدستور القائم”، مؤكداً أنه يستحيل أن “يوضع برنامج زمني فيما يخص عمل اللجنة الدستورية”.
التصريحات الأخيرة للأسد ووزير خارجيته ليست جديدة، وإن كانت تحمل في طياتها تأكيداً واضحاً، ورسالة إلى المجتمع الدولي، بأن الانتخابات ستجري في وقتها، وأن عليه تحضير بيانات الرفض وعدم القبول من الآن، وهو ما صرح به المبعوث الأمريكي الخاص بالملف السوري، جيمس جيفري، في سبتمبر/أيلول الماضي، بأن أمريكا سترفض انتخابات 2021، وأن “الأسد إذا عقد الانتخابات الرئاسية، فلن يحظى بأي مصداقية دولية تُذكر، وستُقابل بالرفض التام من جانب المجتمع الدولي”.
وكل هذه التحركات والتصريحات من قبل نظام الأسد، هدفها كما يرى محللون، المماطلة في عمل “اللجنة الدستورية” عبر “إغراقها في التفاصيل”، والوصول إلى الانتخابات الرئاسية في 2021.
ومن وراء النظام، تتبنى كل من إيران وروسيا، وإن لم يكن بشكل متظابق، وجهة نظر الأسد، بأن “اللجنة الدستورية” غير محكومة بوقت، وأن الانتخابات ستجري وفق موعدها المحدد ووفقا للدستور والقانون المعمول فيه حالياً، بحسب الدبلوماسي السوري السابق، المقيم في واشنطن، بسام بربندي.
ويعتبر بربندي في حديثٍ لـ”السورية نت” بأنه و”إذا نتج أي شيء عن اللجنة الدستورية فهو غير ملزم، ولاسيما أنه يجب أن يوافق عليه مجلس الشعب المنتخب مؤخراً حتى يتم تبنيه، وبالتالي فإن النظام يحاول أن يحمي نفسه من أي تغيير في الدستور أو في المواقف الدولية من الدول الراعية له، باتخاذ خطوات مسبقة تحد من تأثير هذه التغيرات”.
ويضيف بربندي: “في ضوء كل ما يجري حالياً لا يوجد شيء يوحي بوجود عملية سياسية سورية محلية أو برعاية دولية جدية قبل الانتخابات أو لوقت الانتخابات”.
ما سبق يؤكد عليه الباحث السياسي في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، معن طلاع.
وتحدث طلاع لـ”السورية.نت” عن شروط نظام الأسد الثلاثة للعملية الدستورية، مشيراً إلى أن “هذه الشروط تفصلها عن جوهر العملية السياسية”.
أولى الشروط، حسب طلاع هي أن التعديلات الدستورية يجب أن تعرض على مجلس الشعب والاستفتاء والآليات الدستورية، والتي يقول دستور 2012 بأن الرئيس (الأسد) له الحق في رفضها أو قبولها.
أما الشرط الثاني، يضيف طلاع: “أن تبدأ العملية في جنيف ولكن تٌخرج من دمشق”، إضافة إلى شرطٍ ثالث وهو عدم وجود إطار زمني محدد لعمل اللجنة الدستورية.
الشروط الثلاثة، بحسب وجهة نظر الباحث في “مركز عمران”، جعلت “استحقاق الدستور هو استحقاق حكومي أكثر مما هو استحقاق سياسي”، وبالتالي فإن النظام أراد فصل الاستحقاق السياسي عن جوهر العملية، وجعل سيناريو التجميد هو السيناريو الراسخ في العملية السياسية، ريثما تجري تغيرات على مستوى خارطة الفاعلين السياسيين، وحتى الانتخابات الرئاسية الأمريكية وما يمكن أن تفرزه من تغييرات محتملة.
لماذا يصر النظام على انتخابات 2021؟
في سياق ما سبق، وضمن الحديث عن مرحلة ما قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة في سورية، لطالما طُجرت عدة إشارات استفهام، حول الإجابات عن السؤال التالي: ما الهدف من إصرار نظام الأسد على إجراء انتخابات في 2021، رغم معرفته مسبقاً برفضها وعدم الاعتراف بنتائجها من قبل المجتمع الدولي؟.
وحول تفسير ذلك يرى طلاع أن “النظام والروس منذ بدء الثورة لم يستثنوا أي استحقاق، إذ مورست كافة الاستحقاقات الانتخابية بكاملها، فهو(النظام) لا ينتظر استحقاقاً سياسياً خارجياً في هذا السياق، وإنما يحاول أن يفرض الآليات القائمة اليوم على أن تكون هي محور النقاش والحل الدستوري، وهذا ما تقوله ادعاءات روسيا والنظام أن أي إصلاح أو تغيّير،سيكون داخل أقنية النظام القانونية والدستورية”.
لكن بعد “قانون قيصر”، فإن شرعنة نظام الأسد، باتت أكثر انخفاضاً، لذلك يأتي مبدأ كسب الأوراق، وهو المبدأ الغالب في هذا السياق، إذا يسعى النظام ومن خلفه الروس إلى إجراء الاستحقاقات الانتخابية القائمة في وقتها، وبالتالي القول للمجتمع الدولي بأن النظام باقي لمدة سنوات مقبلة، وعليكم أن تتفاوضوا معه.
فالنظام يعول على سيناريو الجمود في الملف السوري نتيجة عدم تلاقي المصالح السياسية للفاعلين المتعددين في سورية، وبالتالي يسعى الأسد إلى شرعنة بقائه، بدءاً من دفع الأطراف الرافضة له، نحو التكيف ثم التطبيع معه، قبل إعادة العلاقات كما كانت وهو ما يرتجيه النظام.
واعتبر طلاع أنه لا يمكن للنظام أن يستغني بسهولة عن استحقاقاته الدستورية، خاصة وأنه فصّل قانون الأحزاب والانتخابات الناظمين للحياة السياسية في سورية، بما يضمن أولوية “حزب البعث”، وبالتالي بقاء المنظومة الكاملة، هي المتحركة في ديناميات الدولة ومؤسساتها، لذلك لا يمكن إلا أن يتبع سياسية المراوغة في “اللجنة الدستورية” وأن يمضي في استحقاقاته الدستورية.
أما الموقف الروسي، وإصراره على موافقة النظام في تحركاته، فتعود، بحسب بسام بربندي، إلى أن موسكو تقول دائماً أنها مع العملية الديمقراطية ومع رأي الشعب وأنه غير مقبول تغيير الأنظمة عن طريق القوة، معتبراً أن “الانتخابات القادمة قد تشهد إقناع روسيا لبعض أطراف المعارضة أن يرشحوا أنفسهم ضد الأسد وبهدف إعطاء الأسد الشرعية وليس للتغيير”.
موت بطيء للجنة الدستورية؟
“فرصة لبناء سياسي جديد في سورية” و”انتصار للشعب السوري” صفات أُطِلقتْ على “اللجنة الدستورية” عند الإعلان عن تشكيلها، من قبل رئيس هيئة التفاوض حينها، نصر الحريري، قبل أن يعود ويقلل من أهميتها بعد ترأسه رئيس الائتلاف المعارض، بالقول “أرى شخصياً أن اللجنة الدستورية بصيغتها الحالية وحراكها الحالي، ورغم إخلاصنا كقوى ثورة ومعارضة في العمل مع فكرة اللجنة وجهود الأمم المتحدة، وعلى الرغم من الحماس والدعم الدولي الكبيرين لها، إلا أنها لن تؤدي إلى نتيجة”.
وبالعودة إلى تصريحات النظام حول إصراره على إجراء الانتخابات في موعدها دون النظر إلى نتائج اللجنة، فإن ذلك يطلق الرصاصة الأخيرة على عمل اللجنة على الرغم من تصريحات متكررة من قبل ضامني أستانة (تركيا وروسيا وإيران) وأمريكا حول أهميتها ووجوب الاستمرار بها.
من جهته اعتبر عضو “اللجنة الدستورية”، طارق كردي، أنه يتوجب عدم الوقوع تحت ضغط توقيتات النظام وخاصة موضوع ما يسمى انتخابات رئاسية في العام القادم، متسائلا “هل إذا جرت الانتخابات أم لم تجري ستؤثر على نضال الشعب السوري في سبيل الحرية؟ (…) هل سيعترف المجتمع الدولي سياسياً بهذه الانتخابات وهل ستساعد مثل هكذا مسرحية على فك عزلة النظام؟ الجواب هو لا”.
وأكد كردي في حديثٍ لـ”السورية.نت” أن نظام الأسد “أجرى انتخابات رئاسية في 2014، ولكن رغم ذلك لم يتوقف نضال الشعب السوري لتحقيق تطلعاته كما لم يعترف المجتمع الدولي”، معتبراً أن المعارضة تنظر لـ”اللجنة الدستورية”، على أنها “أحد مندرجات القرار ٢٢٥٤ وستستمر في مهمتها حتى إنجاز مسودة دستور جديد لسورية”.
واعتبر أن الإصلاح الدستوري المنشود يكون بصياغة مسودة دستور جديد، وأن الدستور الجديد متى ما أقر من قبل الشعب السوري سيحكم وينظم كل الحياة السياسية والعامة وسيكون المرجع لكل القوانين والتشريعات، ومن ضمنها قانون الانتخابات وشروط الترشح ومحددات ممارسة الحق الانتخابي، وبالتالي كل عملية انتخابية ستجري في سورية بعد إقرار الدستور ستكون خاضعة للدستور الجديد، حسب قوله.
وتعتبر نظرة المعارضة السورية، حسب حديث كردي، مغايرة تماماً لنظرة النظام؛ فالمعارضة ترى في “اللجنة الدستورية” أنها الأمل في وضع دستور كامل جديد يخضع مباشرة لاستفتاء ويمهد لانتخابات نزيهة، في حين يراها النظام مقترحات دستورية يجب أن تمر بآليات الدستور القائم.
واعتبر طلاع أن نظام الأسد، وحسب “المبادئ الوطنية” التي طرحها في الجولة الأخيرة من اجتماعات “اللجنةا الدستورية”، إنما هدفه الدخول بتفاصيل بعيدة عن جوهر الصراع في سورية، وهذا يدل على أن “حركية اللجنة الدستورية تسير ببطء شديد وبإنجاز يساوي صفر بالمعنى الدستوري، وبالتالي فإن قضايا الانتخابات المرتبطة بالحكم وطبيعته والهوية وحقوق الإنسان ما تزال بعيدة كل البعد عن المدى الحالي”.
كما اعتبر اباحث في “مركز عمران”، أنه في “الوقت الراهن لا نتكلم عن عملية سياسية واضحة المعالم، وإنما نتكلم عن قفزات غير منطقية في الجدول الزمني الناظم للعملية السياسية، لذلك فإن العملية السياسية لم تعد حكماً انتقالياً وفق المادة الرابعة من القرار الأممي 2254”.
وأضاف طلاع:”بات اليوم القفز واضح المعالم خاصة في الدستور، وبالتالي فإن العملية السياسية أصبحت محصورة بدستور محتمل أن تكون عوامل العطالة فيه كثيرة وتنتج صفراً، ليتم تجزئة استحقاقات العملية السياسيةـ والقفز منها واحدة واحدة، ليكون في نهاية المطاف القرار 2254 خارج السياق ومنتهي الفعالية، وهذا ما يريد النظام تثبيته”.
وتوقع ذات المتحدث، أن يكون التوجه الدولي أسيرَ أمرين؛ إما “أن تبقى العملية سياسية في جنيف وبالتالي ضمن لنفسه فعالية ما، أما الأمر الثاني يتعلق بعرقلة الروسي الذي استطاع تحسين موازين الصراع لصالح النظام وتغير المعادلات العسكرية والتي بطبيعة الحال فرضت نفسها على السياق السياسي”، معتبراً أنه و”بكلتا الحالتين نجد أن هذه التناقضات في الرؤى تفرز على المستوى السياسي مخرجات صفريةـ تجعل التعقيد وتجميد الصراع هو الأكثر احتمالية”.