قبل نحو سبعة أشهر، نشر مركز الإمارات للسياسات تحليلاً، في معرض التعليق على زيارة رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، إلى دمشق، ولقائه برئيس النظام السوري، بشار الأسد. تناول التحليل آفاق تطور العلاقة بين البلدين، وتوقّع يومها أن تنشغل المرحلة المقبلة بالمسائل التفصيلية في القضايا محل الخلاف، من قبيل تفعيل عمل اللجان المشتركة، نزولاً عند مطلب عراقي بهذا الخصوص.
وقد تحقق هذا التوقّع بالفعل، إذ اختُتمت قبل أيام، اجتماعات اللجنة المشتركة السورية – العراقية في دورتها الثانية عشرة، بالعاصمة العراقية بغداد، وتم التوقيع على أربع مذكرات تفاهم وبروتوكول للتعاون، شمل المجالات التجارية والاستثمارية والصناعية والمالية والعلمية والثقافية والبنى التحتية والطاقة والشؤون الخارجية، وفق الإعلام الرسمي للحكومتين.
وصدرت تصريحات لوزيرَي تجارة الطرفين، غلبت عليها المجاملات الدبلوماسية المنفصلة عن الواقع، إذ قال وزير التجارة السوري، إننا نشهد تحسناً نسبياً على مستوى التبادل التجاري للصادرات السورية إلى العراق وأيضاً المستوردات السورية من العراق. هذا التصريح للوزير السوري، جاء بعد نحو شهر فقط، من قرار الجانب العراقي وقف استيراد وتداول عدد من المنتجات السورية، في مقدمتها البندورة، في إجراءٍ تسبب بصدمة لمصدّري المنتجات السورية الذين عادةً ما يراهنون على السوق العراقية.
أما الوزير العراقي، فقال إن “السوق العراقية تفضّل البضاعة والصناعة السورية”، مضيفاً أن “العمل جارٍ لتذليل المعوقات والعقبات أمام زيادة التبادل التجاري بين البلدين”. وهي تصريحات تتناقض أيضاً مع الواقع. إذ أن المصاريف والرسوم الجائرة التي تفرضها السلطات العراقية على شاحنات البضائع السورية على الحدود، والتي لا تتساوى مع الرسوم على مستوردات العراق من الدول الأخرى، إلى جانب إجبار الشاحنات السورية على تنفيذ “مناقلة” لبضائعها، لتُحمّل في شاحنات عراقية، أدى ذلك إلى زيادة تكلفة المُنتَج السوري، بصورة جعلته عاجزاً عن المنافسة أمام نظيره الإيراني أو التركي. وهي معضلة عمرها أكثر من أربع سنوات، ومن أجل حلها، عُقد الكثير من الاجتماعات المشتركة بين الطرفين، وفي كل مرة كان يتم الحديث عن اتفاق جديد يضمن انسياب البضائع السورية إلى السوق العراقية بلا تعقيدات وتكاليف إضافية على الحدود، من دون أن يتحقق ذلك على أرض الواقع. ولا يتعلّق ذلك فقط بالصادرات الزراعية السورية -التي كانت سابقاً تراهن على السوق العراقية- بل يشمل أيضاً المنتجات الصناعية السورية. وفي هذا السياق، يمكن التدليل بتصريح يرجع إلى أكثر من سنة، لرئيس غرفة صناعة حلب، المقرّب من النظام، فارس الشهابي، الذي انتقد حلفاء الأسد بالمجمل، قائلاً: “حتى هذه اللحظة، تصدير قطعة ألبسة ولادي إلى أسواق الدول الحليفة لسوريا أصعب بكثير من تصديرها إلى المريخ”. وأضاف: “مع كل المحبة للدول الحليفة فدعمها الاقتصادي لنا لا يشمل للأسف فتح أسواقها الكبيرة والمهمة أمام منتجاتنا لأسباب غير منطقية نجهلها”.
وإن كان موضوع مقالنا هذا، لا يُعنَى بسرّ عدم فتح الأسواق الإيرانية والروسية أمام المنتجات السورية، فإن تضييق قنوات دخول تلك المنتجات إلى السوق العراقية، سنةً تلو الأخرى، يدفع للتساؤل عن الأسباب. فالعراق كان من أبرز الشركاء التجاريين لسوريا، قبل العام 2011. إلا أنه، وبعد انحسار حالة الاضطراب الأمني والسياسي، في البلدين، منذ العام 2018، بقي التعاون الاقتصادي دون المستوى المتوقع. وفُرض الكثير من القيود، من الجانب العراقي تحديداً.
أحد التفسيرات لذلك، نجده في التحليل المشار إليه، من مركز الإمارات للسياسات، والذي يحمّل النظام السوري مسؤولية هذه الحالة. ويذهب التحليل إلى أن الجانب العراقي يتقصّد بالفعل، عرقلة الصادرات السورية إلى أراضيه، بغية مساومة النظام السوري لتغيير سياساته تجاه بعض الملفات الخلافية. وأبرزها، التعاون الأمني لضبط الحدود المنفلتة، ولجم تهريب المخدرات التي باتت مشكلة تؤرق المجتمع العراقي بعد انتشارها الكثيف في أوساط الشباب، إلى جانب ملف المياه، إذ يتهم العراق الجانب السوري بتخفيض إطلاقات المياه من سد الطبقة تجاه أراضيه، فيما يصرّ النظام السوري على تحميل تركيا كامل المسؤولية عن هذا الملف. ويستبعد التحليل التوصل إلى مخرجات مناسبة لحل هذه القضايا العالقة بين الطرفين. إذ “تريد دمشق أن تأخذ أكثر مما تعطي، وهذا ما يُبقي العلاقات بين الطرفين مرتبكة وغير فاعلة”.
ورغم وجاهة المرتكزات التي استند إليها التحليل أعلاه، إلا أنه يفتقر إلى بعدٍ آخر في تشريح معضلة العلاقات العراقية – السورية، خاصةً في بعدها الاقتصادي. إذ يتعامل التحليل مع الحكومة العراقية بوصفها صاحبة السيادة المطلقة في قرارها، وينظر إليها بوصفها حكومة متماسكة ممركزة النفوذ، ويُغفل البعد المتعلّق بالقوى ذات النفوذ في بغداد، المرتبطة بإيران بصورة أساسية، وبدرجات أقل، بمصالح أطراف أخرى داخل النخبة الحاكمة في العاصمة العراقية. هذا البعد، نجده في تصريحات صدرت قبل أكثر من سنة عن رئيس اتحاد شركات شحن البضائع الدولي في سوريا، الذي قال يومها إن هناك جهات عراقية متنفذة غير حكومية عرقلت تنفيذ قرار رسمي سمح بدخول الشاحنات السورية إلى الأراضي العراقية، موضحاً أن هناك جهات داخل العراق لا تريد إتاحة وصول المُنتَج السوري بكُلفة معقولة، كي لا يصبح منافساً للمُنتجات التركية وغيرها. و”غيرها”، تلك، يُقصد بها، الإيرانية. وهو ما يؤكده تصريح أحد ممثلي المصدّرين السوريين، قبل نحو شهرين، حينما أكد بأن الحمضيات الإيرانية أزاحت نظيرتها السورية من السوق العراقية.
وفيما يتم ترديد معزوفة “وحدة الساحات” بكثافة، هذه الأيام، على الإعلام الرسمي للأطراف الدائرة في “الفلك الإيراني”، تبدو هذه “الوحدة” معزولة تماماً عن لقمة عيش السوريّ، الذي تُغلق في وجهه أبواب أسواق الحلفاء، وأسواق الدول الخاضعة لهم أيضاً. وفيما يعقد مسؤولو العراق وسوريا، اللقاءات تلو الأخرى، وينسجون الاتفاقات ومذكرات التفاهم، يبقى قرار تفعيل كل ذلك، في قبضة صاحب القرار بطهران، الذي يستغل نفوذه لتحقيق منافسة “غير شريفة” لمنتجاته، على حساب المُنتجين في الدول الخاضعة لإرادته.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت