أثارت التهديدات الإسرائيلية الأخيرة التي كشف عنها موقع “إيلاف” في لندن، الحديث مجدّداً عن ماهيّة الموقف الإسرائيلي من العلاقة بين دمشق وطهران من جهة، وكذلك عن مدى قدرة نظام الأسد على ضبط الأنشطة الإيرانية العسكرية داخل الجغرافيا السورية من جهة أخرى.
ولعل ما ميّز التهديد الإسرائيلي الذي نشره موقع “إيلاف” هو أنه كان موجهاً لبشار الأسد باستهداف قصره إنْ هو لم يستطع ردع التحركات الإيرانية العسكرية المناوئة لإسرائيل داخل مناطق سيطرته.
ما ينبغي تأكيده هو أن الاستهدافات الإسرائيلية لإيران ومشتقاتها الميليشياوية على الأرض السورية ليست بجديدة، بل يمكن الذهاب إلى أن المطاردات الإسرائيلية لتحركات إيران داخل سوريا – ومنذ سنوات – باتت أقرب إلى لعبة (القط والفأر)، إذ لا يكاد يمر أسبوع من دون أن تقصف طائرات تل أبيب مواقع تابعة لإيران، وغالباً ما يكون هذا القصف محدّداً ومبرمجاً ضمن عمليات عسكرية دقيقة لا تحمل طابعاً تدميرياً، كما أنها لا تحمل سمة الحرب الشاملة، فهي أشبه بالرسائل التي تريد إسرائيل من ورائها أن تؤكد لطهران ضرورة التزامها بالتحرك والنشاط ضمن ما هو مسموح به أو متفق عليه.
وحين تتجاوز إيران الخطوط الإسرائيلية الحمر، عندئذ ترسل إسرائيل برسائلها التي تتفاوت حدّةً وانخفاضاً وفقاً للتجاوز الإيراني، ولعل الأمثلة العديدة باتت تدل على مقدار النزق الإسرائيلي من أي تحرّك إيراني، فالضربة الإسرائيلية النوعية التي استهدفت ميناء اللاذقية في كانون الأول من العام الفائت، كانت ضربة نوعية، تبيّن فيما بعد أن الميناء على وشك أن يصبح ممرّاً للسلاح من إيران إلى “حزب الله”، وكذلك القصف الإسرائيلي الذي طال مطار دمشق الدولي، بدايات الأسبوع الفائت، وأخرجه عن الخدمة، كان بسبب تماهي إيران في تحويل المطار إلى ثكنة عسكرية تابعة لها.
إذاً يمكن التأكيد على أن الأسباب التي تكمن خلف مناكفات تل أبيب وطهران إنما تعود إلى خلافات حول حجم النفوذ وحيّز التحركات الإيرانية داخل سوريا وليس حول مبدأ الوجود الإيراني في سوريا، ذلك أن الوجود العسكري الإيراني الهائل سواء من حيث القواعد العسكرية الصاروخية أو من حيث الوجود البشري لميليشياتها يمتد من جنوب البلاد وحتى أقصى الشرق، بل إن قطعات عسكرية تابعة لإيران تتموضع اليوم في الجنوب السوري، باتت على بعد مئات الأمتار من الحدود الإسرائيلية، ومع ذلك لم تستهدف إسرائيل ولا مرة واحدة تجمعات بشرية عسكرية إيرانية.
بل لعل اللافت للانتباه أيضاً أن إسرائيل لا تنفّذ أي عملية عسكرية داخل سوريا إلّا في ساعات متأخرة من الليل في خطوة توحي بتحاشي إيقاع خسائر بشرية إيرانية. ولعل ما سبقت الإشارة إليه لا يحتاج إلى مزيد من التأكيد بوجود الدور الروسي الذي يقوم بمهمة التنسيق المباشر بين الجانبين، ذلك الدور الذي تمت هندسته والاتفاق عليه في اللقاء الذي جمع مسؤولي الأمن القومي لكلٍّ من روسيا وإسرائيل والولايات المتحدة الأميركية في القدس المحتلة، بشهر حزيران 2019.
وقد أُسند للروس بموجب هذا اللقاء أن يضبطوا التحركات الإيرانية داخل سوريا، في حين تُعطى إسرائيل الحق في استهداف أي تحرّك إيراني يتجاوز الخطوط الحمر، مع التزامها بإبلاغ روسيا مسبقاً بأي عملية عسكرية تنوي تنفيذها داخل الأراضي السورية.
مما لا شك فيه أن الحرب الروسية على أوكرانيا أحدثت خللاً في العلاقات الروسية الإسرائيلية، وذلك من جرّاء الموقف الإسرائيلي الذي تراه موسكو منحازاً إلى الموقف الأميركي والغربي عموماً.
وقد بدا الامتعاض الروسي من تل أبيب واضحاً في مجمل التصريحات الصادرة عن الخارجية الروسية والتي تحمل في مجملها استنكاراً للغارات الإسرائيلية داخل سوريا، وهي في مجملها تنطوي على أمرين: الأول يجسد تعبيراً روسياً مباشراً عن الانزعاج الروسي من موقف إسرائيل حيال الحرب على أوكرانيا، والثاني يراد منه احتواء السخط الذي يبديه الموالون للأسد واحتجاجهم على عدم تصدّي الروس للطائرات والغارات التي تستهدف البنية التحتية للنظام كميناء اللاذقية ومطار دمشق، بل ربما نشهد في المراحل المقبلة تصعيداً إعلامياً روسياً أعلى نبرةً من السابق في استنكار الغارات الإسرائيلية، إلا أنه من المُستبعد أن يرتقي هذا التصعيد إلى أي حالة من حالات المواجهة العسكرية المباشرة.
لعله لا جديد في القول إن إسرائيل ربما تدرك أكثر من سواها عضوية العلاقة بين الأسد وطهران، كما أنها تدرك جيداً طبيعة تنافس المصالح الروسية الإيرانية داخل سوريا، ولئن كان الروس يسعون إلى بسط هيمنتهم على الدولة السورية كمقدرات ومصالح اقتصادية، فإن إيران ما تزال تنظر إلى سوريا على أنها امتداد حيوي للمشروع الإيراني الذي يتمدد في المنطقة العربية، وهي بذلك لا تجد مصلحتها في سوريا من دون الأسد كنظام حكم.
ولكن على الرغم من ذلك، فلم يسبق لإسرائيل أن أبدت رغبتها في زوال نظام الأسد كخطوة نحو إضعاف النفوذ الإيراني، بل ما بات واضحاً هو حرص إسرائيل الدائم على استمرار “الأسد” في السلطة، كضمانة أمنية لحدودها طوال عقود من الزمن، وما تزال ترى أن (شيطاناً تعرفه أفضل من آخر لا تعرفه) ربما يكون هو الأكثر تناغماً مع مصالحها الأمنية، إلّا أن هذه المعادلة الإسرائيلية لا تمنع بحال من الأحوال أن تتوجه بين حين وآخر بالتنبيه والتحذير لهذا (الشيطان الأمين) لتؤكّد له دورها وقدرتها على تغيير المعادلة الضامنة لأمنه واستمراره في السلطة متى أرادت.
وربما أرادت أيضاً أن تؤكّد له أن تهديداتها باستهداف قصره إنما تعيد ترميم صورته في أعين مواليه وحلفائه (الممانعين) الذين يجدون في تلك التهديدات تعزيزاً لاعتقادهم بالدور الممانع أو المناهض الذي ما يزال يتحصّن به نظام الأسد، بل فوق هذا وذاك لعل إسرائيل أرادت من وراء تهديداتها لبشار أن تؤكّد لموسكو أن استهداف قصر بشار الأسد إنما يعني القدرة على استهداف أو تقويض مصلحة روسية إستراتيجية، وعلى بوتين أن يعي ذلك.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت