استطاع عدد كبير من السوريين والسوريات الأميركيين أن يجمعوا أنفسهم وأن ينسقوا جهودهم منذ الأشهر الأولى للثورة، فشكلوا بداية مجموعات لا بأس بها تحت عناوين العمل الإغاثي. تطور عملهم بعدها ليدخل في مجالات صناعة مجموعات الضغط والتأثير السياسي. لقد كانت الجالية السورية في الولايات المتحدة الأميركية التقليدية، أي التي شكلت عبر عقود طويلة قبل الثورة عام 2011– كما في غيرها من بلدان العالم – ذات حضور مميز على المستوى الفردي لا الجماعي، ولذلك أسباب عديدة. لعلّ أهمّ أسباب ابتعاد السوريين في الخارج عن بعضهم قبل الثورة هي ذاتها التي جعلتهم يبتعدون عن بعضهم في سوريا ذاتها، فالخوف من عسس النظام وتقارير المخبرين كان يلاحقهم أينما حلوا وارتحلوا، ومعظمهم – باستثناء المعارضين السياسيين القدامى من أيام الوحدة وانقلابات البعث أو من الإخوان بعد أحداث الثمانينات – كانوا يرغبون على الدوام بزيارة بلدهم ورؤية أهلهم فيها، لذلك كانوا يخشون أي احتكاك ببعضهم قد يودي بهم في غياهب المعتقلات عند عودتهم إلى البلد.
بعد الثورة اختلف الأمر جذرياً، فمن انحاز منهم لصفّ الثورة أخذ على عاتقه البدء بالعمل المنظم وفق القوانين والأنظمة النافذة في الولايات المتحدة الأميركية. لقد كان كاتب هذه السطور شاهد عيان على النقاشات التي دارت بين أعضاء مؤسسين في منظمات سورية أميركية مهمّة جداً صيف عام 2011 عندما كان في زيارة هناك. أمّا من أخذ منهم صفّ النظام – وهم قلّة بالمناسبة – فكانوا من الأساس مجنّدين لديه، فإما من أصحاب الوظائف في السفارة والقنصليات المختلفة، أو من أصحاب المصالح الذين كانوا مرتبطين برجال السلطة ورجال الأعمال الفاسدين من أزلام النظام.
وزّع السوريون الأميركيون أنفسهم على قسمين، الأول يضم المتبرعين وجامعي التبرعات من أبناء الجالية المساندين للثورة، والثاني يشمل أعضاءً تفرغوا للعمل السياسي المباشر في الدوائر الرسمية الأميركية. استطاع السوريون أن يوصلوا أصواتهم إلى أروقة الكونغرس بغرفتيه وإلى وزارة الخارجية والبيت الأبيض. ساهمت مجموعات الضغط هذه في حملات المرشحين الديمقراطيين والجمهوريين على السواء، وكان لديهم تأثير كبير جداً في عملية استصدار قانون قيصر وغيره من العقوبات المفروضة على مرتكبي الجرائم والانتهاكات من طرف النظام وحلفائه وداعميه.
لا شكّ بأنّ نجاح الجالية السورية في أميركا له أسبابه، ومنها – كما ذكرنا في مقال سابق – ذاتي يخصّ الجالية نفسها من حيث غناها وعديد أفرادها ومستواهم الاجتماعي الراقي واستقلال قرارها، ومنها ما هو موضوعي يتعلق بالولايات المتحدة الأميركية كأقوى بلد في العالم وأكثرها فاعلية وتأثيراً في المجتمع الدولي. هذا يجعلنا نبحث في أسباب عدم نشوء مجموعات ضغط (Lobbies) سورية مماثلة في بلدان أوروبا الفاعلة في الملف السوري، مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا. وإن شئنا الفائدة والدقة، علينا أن نبحث بأساليب إنشاء هذه المجموعات، على اعتبار أنّ العلوم الاجتماعية لا يمكنها تفسير أو شرح أسباب غياب ظاهرة ما، وأكثر ما يمكنها هو شرح وتفسير أسباب وجودها، فما بالنا بمقال رأي لا يمتلك من الأدوات ولا تسمح طبيعته بأكثر من طرح مجموعة أفكار.
تتميّز الجاليات السورية التقليدية عموماً في جميع أنحاء العالم، بأنّ أعضاءها بشكل عام من الناجحين في أعمالهم الخاصة، فهم رجال الأعمال وصحافيون وإعلاميون وأطباء ومهندسون ومحامون وشعراء وأدباء ومثقفون، ومعظمهم كان متفوقاً – من ناحية الدراسة على الأقل في سوريا – وقد هاجروا لتوسيع آفاق حياتهم وبناء مستقبل أفضل لهم. جعلهم هذا ذوي حضور فردي مميز واحترام خاص في البلدان التي استقرّوا فيها بعد أن اندمجوا في مجتمعاتهم الجديدة وباتوا جزءًا فاعلاً فيها. لكنّ نجاحهم الفردي لم ينعكس على علاقاتهم البينية بشكل مماثل، فكانت علاقاتهم محكومة بأسباب الجفاء والبعد الذي حكم السوريات والسوريين في سوريا. ليس بالإمكان إنكار قدرة النظام السوري الفائقة، على ملاحقة بنات سوريا وأبنائها حتى أقاصي الأرض، وتخويفهم من بعضهم وإرعابهم من ملاحقة عيونه وجواسيسه ومخبريه. طبع هذا الخوف علاقة أفراد الجاليات بعضهم بالبعض الآخر، مما سبب تفتتاً وتشرذماً وضعف حضورٍ مخزياً على المستوى الجماعي.
بعد الثورة تغيّرت الأمور بالنسبة لمن انحاز لها واستمر على موقفه هذا حتى اللحظة، وهذا الظرف الجديد من الأسباب التي تجعلنا نتكلم عن ضرورة تأطير هذه الجهود ضمن هيكلية ما، أو تنظيم أو كيانٍ أو جسمٍ معيّن قادرٍ على إحداث أثر متناسب مع حجم هذه الجاليات ودورها في مجتمعاتها. إنّ الثورة لا تنتصر بالدعاء، بل بتهيئة الأسباب القادرة على حملها على الأكتاف ورفع رايتها فوق رؤوس الأشهاد. ومن أسباب النصر تنظيم جهود أفراد الجاليات السورية في بلدان أوروبا، أو على الأقل في الدول الكبرى منها والفاعلة بشكل ملحوظ في الملف السوري.
يجب على الشخصيات السورية المعارضة نساءً ورجالاً، أن يُنشئوا في بلدانهم إضافة إلى الروابط التخصصية كاتحادات الصحفيين والأدباء والفنانين، روابط عامّة للجاليات. سيكون من أولى مهام هذه الروابط تخصيص المال والوقت والجهد الكافي لمخاطبة الكتل النيابية والأحزاب المختلفة ووزارات الخارجية في هذه الدول. يجب أن يتفرّغ من أعضائها أشخاصٌ مؤهلون لهذا العمل، والأفضل أن يكونوا من أبناء الجيل الثاني الذين ولدوا ونشؤوا في هذه البلاد. يجب على الجاليات أن تؤمن لهم – من خلال صندوقها المالي المعتمد – رواتب ومعاشات تسمح لهم بهذا التفرّغ. بهذا يمكن مع الزمن أن تصبح هذه الجاليات قوى فاعلة ومؤثرة حتى في السياسات الداخلية لهذه البلدان، وسينعكس هذا بكل إيجابية على العلاقة المستقبلية لحكوماتها مع الحكومات الديمقراطية التي ستصل إلى الحكم في سوريا الجديدة.
هل يستطيع السوريّون والسوريات إنجاز ذلك؟ الجواب النظري يقول نعم، فهم يمتلكون جميع مقوماته، وتتوافر لديهم كلّ أسبابه، وتفرض عليهم ظروف بلدهم بما يشبه الحتمية اللازمة فعل ذلك. الجواب العملي هو ما نشاهده على أرض الواقع، فالأمنيات لا تصنع التغيير ولا تبني المستقبل، وحده العمل من يفعل ذلك.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت