معاني ودلالات رفض السوريين لتصريحات وزير الخارجة التركي
لعلها لم تكن من قبيل المفاجأة أو المصادفة العابرة أن يغضب السوريون وخاصة في الداخل السوري حين يشعرون أن الحيف يمكن أن يطول قضيتهم التي نذروا أرواحهم وأرواح أبنائهم لأجلها، إلا أن تعبيرهم عن غضبهم كان منسجماً مع نبل أهداف ثورتهم وتطلعاتهم المشروعة، ذلك أنه مهما تكن تصريحات وزير الخارجية التركي موجعة إلا أن ردة الفعل على هذا الوجع كانت غاية في الرقي والالتزام الأخلاقي.
كانت صرخات المتظاهرين موجهة لنظام الإجرام الأسدي بالدرجة الأولى، مؤكدة أن الطغمة الأسدية التي قتلت أبناءهم وهدمت بيوتهم فوق ساكنيها واقتلعتهم من مدنهم وديارهم لا يمكن أن تمتد لها يد المصالحة، كما أكدت تلك الصيحات أن المواجهة بين نظام الأسد والشعب السوري هي صراع وجود وليست صراعاً حول مكتسبات سياسية ودستورية. ولعل الأهم من ذلك أن غضب الجماهير في الداخل السوري لم يجعلها تفقد البوصلة وتخلط العدو بالصديق كما أراد بعض المرجفين، ذلك أن الوعي الثوري الناضج لدى الثوار جعلهم لا يتيحون أية ثغرة لمن جاء ليصطاد بالماء العكر، كبعض الذين حاولوا إحراق الاعلام والمساس بالرموز المدنية للأشقاء والأصدقاء، إلا ان هذه الممارسات المرفوضة سرعان ما حوصرت من قبل المتظاهرين الغاضبين من تصريحات الوزير التركي، والواعين بالوقت نفسه لأهمية الصديق التركي.
مهما يكن من أمر فإن ما شهدناه من حراك سلمي في المناطق المحررة يحمل الكثير من المعاني والدلالات وعلى أكثر من مستوى.
ما يمكن الوقوف عنده أولاً هو أن النبرة العالية لصيحات المتظاهرين والمشحونة بالغضب إنما تدل على احتقان بعيد الغور في النفوس ظل يتراكم طيلة السنوات الماضية، ولعل ما أسهم في مراكمة هذا الاحتقان عوامل متعددة، منها ما ينبثق من بواعث معيشية وأمنية لم تبرح حياة السوريين منذ أن بدأ بشار الأسد حربه الآثمة عليهم، فهم مهددون على الدوام إما بطائرات الموت التي تقذف حممها فوق رؤوسهم، أو بالنزوح ومغادرة الديار والتشرد في العراء نتيجةً لضراوة القصف الذي لم يترك لهم مساحة أمان من جانب النظام وحلفائه الروس والإيرانيين، بل غالباً ما تعززت مأساتهم نتيجة ما تمارسه عليهم سلطات الأمر الواقع، حيث الحالة الفصائلية والفوضى الأمنية وسوء الخدمات وغلاء المعيشة وانعدام فرص العمل.
لعل جميع تلك العوامل تضافرت لتراكم في نفوسهم مزيداً من القهر الذي سرعان ما انفجر حين لم تعد تتسع النفوس لمزيد من الآلام، وكذلك لا يمكن تجاهل الحالة العامة للشأن السوري، ذلك أن تداعيات مؤلمة لسنوات طويلة من الإحباط والشعور بالخذلان، تتالت منذ اقتحام النظام لأحياء حلب الشرقية أواخر العام 2016، بمساندة المحتل الروسي مروراً باقتحام النظام وحلفائه للغوطة الشرقية والقلمون وجنوب دمشق ودرعا وباقي مدن وبلدات ما أطلق عليه “مناطق خفض التصعيد”، التي نتجت عن مسار أستانا المشؤوم بالنسبة إلى السوريين، ثم تتالت فصول المأساة باقتحام قوات النظام وأعوانه لمدن خان شيخون وسراقب ومعرة النعمان والعديد من بلدات وقرى ريف حماة الشمالي وإدلب الجنوبي والشرقي، وأرياف حلب، وتشريد مئات الآلاف من السوريين في شتاء 2020.
لقد تألم السوريون من جراء كل ما سبق وظلوا يدفنون قهرهم في القلوب اعتقاداً منهم أن ما يحل بهم من شقاء إنما هو ثمن صمودهم والحفاظ على قيم ومبادئ ثورتهم، إلا أن جدران الصبر العالية والمتينة لم تعد قادرة على كبح غضبهم حين شعروا أن الأذى لن يتوقف على تخوم أجسادهم وأرواحهم فحسب، بل يمكن أن يطول قضيتهم الجوهرية، فكان هذا البركان الهائل الذي تجسد بالمظاهرات العارمة التي وجهت للعالم أجمع أكثر من رسالة بالغة الوضوح والشفافية.
ولعل من أبرز هذه الرسائل أن ثورة السوريين لم تنطفئ، بل مازالت كنار تحت الرماد، وهي قابلة للاشتعال في أية لحظة، وعلى من يراهن على موت الثورة أن يدرك أنه يراهن على المستحيل.
ثاني هذه الرسائل تتوجه إلى جميع الدول الساعية الى إعادة علاقاتها مع النظام بغية تعويمه عربياً وإقليمياً، إذ يؤكد المتظاهرون اليوم لهؤلاء بأن التطبيع مع نظام دمشق لن يكون أكثر من تطبيع مع مجرم سفاح لا علاقة له بالشعب السوري.
ثالث هذه الرسائل، وبعيداً عن المواربة وعن لغة الانبطاح للمعارضة السياسية والعسكرية المصنّعة، مفادها أننا نقدر لتركيا الحليف والصديق وقوفها إلى جانب الشعب السوري وما قدمته من مساعدات لملايين السوريين الفارين من إجرام الأسد، وهذا أمر لا ينكره أحد، ولها الحق في تقرير سياستها وفق ما تقتضيه مصالحها وعلاقاتها الدولية، وإن شاءت أن تصالح الأسد ونظامه فهذا شأنها، ولكن ليس لتركيا الحق بفرض قرارها على السوريين الذين ضحوا بمليون شهيد وملايين المهجرين والنازحين ومئات الآلاف من المعتقلين والمغيبين قسرياً، بمصالحة مجرم الحرب الذي فعل بهم كل ذلك، والذي يجب أن يكون مصيره المثول أمام محكمة الجنايات الدولية وفي يديه الأغلال وليس المصافحات والمصالحات.
ولعل الرسالة الأبلغ إنما تتوجه إلى كل الكيانات التي ادعت تمثيل الثورة، لتؤكد لهؤلاء جميعاً أن صوت الثوار وحضورهم على الأرض هو من يوجه سيرورة الثورة وبوصلتها ولا أحد سواه، وبالتالي يمكننا أن نستشف أمراً بالغ الدلالة وهو أنه مهما حُوصرت ثورة السوريين، ومهما واجهت من مآزق وعثرات، فإن السبيل الأمثل إلى إعادة وهجها وصوابية طريقها هو الشارع الثوري، فأصوات الثائرين وصيحاتهم هي الحصن الحصين لقيم الثورة وأهدافها وهي الضامن لاستمراريتها.
وبالتالي هل سيتمكن الثوار المخلصون من استثمار هذه المظاهرات الجماهيرية المعبرة عن الموقف الحقيقي للشعب السوري من نظام الإجرام الأسدي، بإعادة تشكيل الكيانات الثورية والسياسية الممثلة لهم، لتعبر عن آمالهم وتطلعاتهم بالحرية وإسقاط النظام، وإسقاط الكيانات التي ادعت تمثيلهم زوراً وبهتاناً، ورهنت قرارها للدول وأصبحت جاهزة لتنفيذ كل ما يُطلب منها، واختزلت كل القضية السورية بلجنة دستورية تعيدنا لحظيرة الأسد، وهل ستسهم هذه الصحوة الثورية بالتخلص من بعض قادة الفصائل الفاسدين الذين أجروا بندقيتهم وقيدوا مقاتليهم باتفاقيات أستانا وسوتشي ولم نعد نشاهد سوى المعارك البينية في صراعات على السلطة والنفوذ والمعابر والتهريب، وبالتالي عودة الثورة إلى سيرتها الأولى وفتح جبهات القتال واستعادة المناطق التي احتلها النظام وحلفاؤه بتخاذل هؤلاء القادة.
ويبقى السؤال الأهم هل ستدرك الدول النافذة في الشأن السوري والممسكة بالجغرافيا السورية بأن الشارع الثوري هو المرجعية الحقيقية للقضية السورية وليس الكيانات الوظيفية المدجّنة؟
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت