يرفع نظام بشار الأسد شعارات من قبيل “إعادة الإعمار”، و”إعادة بناء سوريا”، مستنداً إلى التقدم الميداني الذي حققه خلال العام 2018، الذي استعاد من خلاله مساحة تُقدر بـ60 % من الأراضي السورية، والتي خسرها بعد اندلاع الاحتجاجات عام 2011.
ولكن “هل يمكن أن يُعاد بناء سوريا مع بقاء الأسد في السلطة؟”، سؤال طرحه تحليل موسع لصحيفة “فايننشال تايمز(link is external)” البريطانية، نشرته أمس السبت، وترجمته “السورية نت”، وعرضت خلاله الصحيفة مدى صعوبة تعافي سوريا في ظل استمرار الأسد بمنصبه، موضحةً الأسباب الكثيرة لذلك.
وينطلق تحليل الصحيفة بالحديث عما خلفته عمليات القصف والهجمات العسكرية من دمار أصاب المدن الصناعية في سوريا، وكبّل قوة العمل فيها، وقال إن الفقر والعوز المتزايد، يقوضان “النصر العسكري” البادي للنظام.
أزمة في المحروقات، واقتصاد متهالك، ونقص في تمويل “إعادة الإعمار”، جميعها معوقات رئيسية تواجه النظام، وقالت الصحيفة في تعليقها على هذه الأزمات المتفاقمة وتأثيرها، إنه “في حين لم يجرؤ العديد على انتقاد النظام الاستبدادي، أثار نقص الغاز هذا الشتاء استياءً، وتساءل بعض السوريين بهدوء عن سبب تزايد سوء وضعهم الاقتصادي”.
وقال أيمن (52 عاماً)، الذي يعمل في متجر للمعدات في دمشق: “العمل ضعيف (…) اعتقدنا أن كل شيء سيتحسن لأنهم حلوا الأزمة، ولكن ما حصل هو العكس”.
مصالح متضاربة تربك النظام
وأدت المصالح الدولية المتعاكسة إلى تعقيد مهمة النظام إحياء الاقتصاد، وإعادة “بناء سوريا”، وفي ذات الوقت وعلى الرغم من حليفتا الأسد، روسيان وإيران، رجحتا كفة المعارك العسكرية لصالح الأسد، إلا أنهما لا تقدمان الموارد لإحياء الدولة، بالإضافة إلى تصميم الغرب على عدم دعم النظام، بل وذهب إلى تشديد العقوبات وحجب المبالغ الكبيرة لإعادة الإعمار.
ويُتهم رجال الأعمال المقربون من النظام باستغلال الصراع لتحقيق مزيد من الأرباح لهم، ويخشى النقاد أن المال الخارجي لـ”إعادة الإعمار” – والذي تتراوح قيمته بين 250 مليار دولار، حسبما قدرت الأمم المتحدة و400 مليار دولار حسب تقدير النظام – سيؤدي إلى زيادة ثرواتهم أكثر.
خيارات النظام تنفذ
وعلى مستوى المواطنين السوريين، فوفقاً لدراسة تدعمها الأمم المتحدة، تجاوزت نسبة الذين يعانون منهم من الفقر المدقع، وهم الذين يقل دخلهم عن 1,90 دولار يومياً، ضعف ما كانت عليه مع وصولها لنسبة 69 بالمئة منذ عام 2011.
ويشير استبيان أجراه البنك الدولي، إلى أن حوالي 56 بالمئة من رجال الأعمال في البلاد والذين الاستبيان، إما أغلقوا أعمالهم أو انتقلوا خارج سوريا منذ عام 2009، وبينما كانت البطالة تقل عن 10 بالمئة عام 2010، تخطت نسبة 50 بالمئة بحلول عام 2015، وفق أحدث البيانات المتوفرة.
ويضاف إلى ذلك، تكاليف المعيشة المرتفعة، وركود الأجور، ونفاد القوة الشرائية لدى الشعب، وهو ما يعني أن السوريين لتأمين الأساسيات.
ويُقدر البنك الدولي الخسارات المتراكمة في الناتج المحلي الإجمالي في سوريا، بين عامي 2011 و2016 بنحو 226 مليار دولار، وهو ما يبلغ حوالي أربعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي في سوريا لعام 2010.
ونقلت الصحيفة البريطانية عن صناعي سوري اسمه أحمد، قوله إن “خيارات الحكومة تكاد تنفد، الجميع قالوا إن عام 2019 سيكون عاماً عصيباً من الناحية الاقتصادية على سوريا وإن نتيجة ذلك ستكون معاناة الشعب”.
ويشير تحليل الصحيفة إلى الفروق الاقتصادية الحاصلة في مناطق سيطرة النظام، إذ قالت إنه “مع اختفاء الطبقة الوسطى في العديد من المناطق، تكشف دمشق عن فوارق هائلة بين النخبة المنعزلين ومن تبقى من الناس. واجهات المحال البراقة ومقاهي الشيشة المزدحمة في المناطق المتعافية تناقض طوابير الخبز الحكومي وطوابير من يحاولون استبدال اسطوانات الغاز الفارغة”.
وظهرت طبقة جديدة من رجال أعمال الحرب، مع كسبهم للأرباح من تهريب الأسلحة، أو الناس، أو المخدرات، إلى السيطرة على التجارة بين جبهات المعارضة والنظام.
وتقدم الشاحنات التي تحمل الصلب والبراميل الصدأة عبر الغوطة الشرقية المدمرة أوضح دلالة على اقتصاد الحرب هذا، تقول الصحيفة، وتنقل عن الاقتصادي المؤيد للنظام، عمار يوسف، قوله إن “إعادة تدوير ما خلفته هذه الحرب يعد أحد أكثر الصناعات انتشاراً الآن”، مضيفاً أن تصنيع الحديد المأخوذ من المباني المدمرة هو أحد الأمثلة.
ونهبت الميليشيات في سوريا عدداً كبيراً من الأسلاك النحاسية، التي تم انتزاعها من المباني، وتم تذويبها لدرجة أنه وبحلول عام 2014 أصبحت منتجات النحاس رابع أكبر صادرات سوريا، وفقاً للبنك الدولي، فيما قدر يوسف اقتصاد النهب بحوالي 800 مليون دولار سنوياً.
ولم تُقابل عمليات النهب هذه بأي تحرك من النظام، بل رأى رجل أعمال اسمه مروان في تصريح لـ”فايننشال تايمز”، أن النظام تغاضى عن تجار الحروب، بل “إنه يكافئ رجال الأعمال الموالين، والسياسيين المحليين، المخابرات، وكامل الأفرع المؤيدة للنظام”.
مصالح ضيقة
وقبل اندلاع الثورة في سوريا، كان الأسد قد لمح لخطوات مؤقتة لتحقيق الانفتاح الاقتصادي، حيث أدت عقود من سياسات الاقتصاد المغلق لتشكيل شبكات متماسكة قوية معتمدة على الحكومة. ولكن عوضاً عن إعادة توزيع الثروة، وسعت الإصلاحات من الفرص لصالح رؤوس الأموال المقربين من الحكم، وهو الوضع الذي تفاقم خلال السنوات الماضية.
كذلك لم يخفف النظام من قبضته على الصناعات الأساسية مثل النفط أو البناء، حسبما قال حسان، الذي يملك عملاً، مضيفاً: “كل القطاعات الاستراتيجية كانت وستظل تحت سيطرة الحكومة أو سيطرة الأشخاص المتصلين بالحكومة”.
ويمثل هذا الواقع تحدياً آخر أمام النظام لإعادة بناء وإعمار سوريا، حيث أشار تحليل الصحيفة إلى أن ذلك “يعني مواجهة الدول المهتمة بتحقيق الاستقرار في سوريا لمعضلة، وهي كيفية مساعدة الشعب على إعادة الإعمار دون تقوية نظام رفضه العديد منذ عام 2011”.
العقوبات الغربية
ولا تزال الولايات المتحدة ومعظم الدول الأوروبية ضد تطبيع العلاقات مع الأسد، أو حتى تخفيف العقوبات المالية المفروضة عليه، بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، بالإضافة إلى أن دعوات موسكو للغرب في المشاركة بـ”إعادة الإعمار” لم تلقى آذاناً صاغية.
ومنذ عام 2011 فرضت أمريكا، والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة عقوبات على واردات من قبيل أنواع معينة من الوقود، وعلى أفراد سوريين متهمين بدعم النظام مالياً.
وزادت بروكسل من العقوبات في شهر كانون الثاني الماضي، وأصدرت المزيد من الإجراءات ضد 11 رجل أعمال، كما مرر الكونغرس الأمريكي قانون “قيصر” لتوسيع إجراءات العقوبات المفروضة على النظام، لتتضمن المواطنين غير الأمريكيين الذين يتعاملون مع نظام الأسد.
وأدت هذه العقوبات، إلى أن رجال الأعمال السوريين الذين يقولون إنهم ليسوا مرتبطين بالنظام، باتوا يقلقون من أن هذه العقوبات المكلفة قد تصيب كل من يرتبط بـ”إعادة الإعمار”.
ويقول هؤلاء إن “المصارف تمنع بالفعل التحويلات المالية”، فلا يمكنهم الإرسال عبر الجهات الأوروبية على سبيل المثال، أو أن عليهم تحويل المال عبر شبكات التحويل غير الرسمية الباهظة.
مخاوف
ومن غير المرجح أيضاً أن تجازف شركات البناء المتمركزة بالخليج بغضب أمريكا، مع عدم إبداء حليفتا النظام روسيا وإيران برغبة بالإنفاق، ومع قلق الصين من الاستثمار، من غير الواضح من الذي سيدفع لإعادة إعمار سوريا عدا عن السوريين أنفسهم.
وحتى دون العقوبات يبقى إنجاز الأعمال صعباً في سوريا، حيث يصف أصحاب الشركات المتنقلين من سوريا إلى بيروت أو لندن أو باريس البيئة التجارية الموحلة والتحديات الملغومة، ويتحدثون عن خسارة العمال المهرة، إلى الفساد المنتشر، والبنية التحتية المدمرة، والعنف وهيئات الدولة الجشعة. حتى في النزاعات القانونية، يشتكي حسان رجل الأعمال بقوله: “لا يمكنك الحصول على حقوقك دون الفساد”.
وتشتكي الشركات من الضرائب المرتفعة على الرغم من قلة الربح، ومن التبرعات الواجبة للمنظمات غير الحكومية التي تعمل كأجهزة حكومية غير رسمية، وارتفاع التكاليف الجمركية التي تعتبر ابتزازية.
وفي الوقت ذاته، الشركات الإيرانية والروسية بما فيها Stroytransgaz، تتهم بالسيطرة على الموارد الطبيعية الأساسية لسوريا بالقوة، مع حصولها على عقود مربحة بالفوسفات والنفط والغاز والكهرباء.
وحتى في حال عودة أرباب العمل، فقد غادر أغلب الموظفين، كما أن تجنيد الرجال الذين يزيد عمرهم عن 18 عاماً أدى إلى تقليص القوة العاملة الماهرة أكثر.
وختمت الصحيفة البريطانية تحليلها بالقول إن “المنافسة الكبرى لدمشق وحلب تكشف عن مدى ما يحتاجه اقتصاد سوريا للإصلاح. حيث أدى القصف والنهب لتدمير مئات المصانع في بؤرة التجمع السابق لصناعة النسيج. وسيتطلب إجلاء الركام البالغ 14,9 مليون طن لستة أعوام من العمل المستمر وفقاً لإحصائيات البنك العالمي”.