مقاتلون بلا حدود: سوريون في حروبٍ بعيدة..قراءةٌ بالدوافع والوقائع
سنة 1993، وُلِدَ محمد خالد الشحنة في مدينة معرة النعمان، شمال غرب سورية، لعائلة من الطبقة المتوسطة. تخطى المرحلتين الابتدائية والإعدادية في مدينته، التي درس في ثانويتها الصناعية لاحقاً حتى سنة 2011، حيث بدأت الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد، بينما كان يستعدُ لامتحانات الثانوية.
سريعاً تدحرجت كرة النارِ حوله وهو في الثامنة عشر من عمره؛ احتجاجاتٌ تتوسع، ونفوسٌ تتوثبُ حُنقاً، كلما سقط قتلى جدد من المتظاهرين برصاص قوات أمن النظام، الذي دفع مُبكراً بقواته العسكرية لإخضاع المُدن المنتفضة من درعا جنوباً إلى إدلب شمالاً، مروراً بمحيط دمشق، وحمص وحماه وغيرها، للسيطرة عليها بالقوة بعدما انفلتت من قبضته سياسياً.
وبينما ترافقت اقتحاماتٌ نفذتها قوات النظام، في المناطق المناهضة، بمجازر وإعدامات واعتقالات، وصل الرافضون لحكم آل الأسد نقطة اللاعودة؛ فحملَ محمد خالد الشحنة كبعض أصدقائه السلاح، وسط مُجتمعه الذي استشعر معظمهُ خطر العودة لما قبل مارس/آذار 2011، ومَنحَ أوسمة معنوية تحفيزية، للشبانِ الذين تولوا مهمة التصدي للقوات المتقدمة، وباتوا مُقاتلين لأول مرة في حياتهم، وسَيبقونَ كذلك مع تعقيدات المشهد لسنوات كثيرة؛ متأثرينَ ومنفعلين بالتطورات التي حملت بعضهم لجبهاتٍ عديدة داخل بلداتِهم ثم خارجها ضمن سورية، ولاحقاً لجبهات بعيدة؛ أولها ليبيا، وقد لا تكون آخرها جبهة الحرب بين أذربيجان وأرمينيا.
على طرفي النار
في يناير/كانون الثاني بداية 2020، سَرتْ شائعاتٌ سرعان ما ثبت صحتها، حول وجود مقاتلين سوريين، يحاربون مع “حكومة الوفاق” في العاصمة الليبية، ضد قوات خصمها خليفة حفتر؛ وبالتزامن تقريباً، بدأت تظهر معلوماتٌ حول نقل شبانٍ سوريين من مناطق سيطرة النظام، لبنغازي، دعماً لحفتر ضد “الوفاق”.
وفي سبتمبر/أيلول الماضي، ظهرت رواياتٌ تأكدت لاحقاً، عن بدء نقل مقاتلين من شمال غرب سورية، للقتال ضمن الجبهة الأذربيجانية، ضد القوات الأرمينية، في النزاع التاريخي الذي تجددَ بين الدولتين على إقليم “قره باغ”.
بالمقابل، اتهمت وزارة الدفاع الأذربيجانية، نظيرتها الأرمينية، يوم 28سبتمبر/أيلول الماضي، باستقدام “مرتزقة أجانب”، إذ قال المتحدث باسم الوزارة، أنار أيوازوف، إنه تم العثور على “جثث سوريين من أصول أرمنية بين جثث قتلى القوات الأرمينية” في قره باغ.
بعد يومين، ودون تحديد الجنسية السورية، أكد الرئيس الأرميني، أرمين سركيسيان، خلال مقابلة على قناة “الجزيرة”، وجود “عدد من المتطوعين الأرمن قدموا من الخارج للقتال إلى جانب القوات الأرمنية (..) من حق أي أرمني أن يقاتل إلى جانب أرمينيا.. هذا أمر طبيعي”.
لماذا؟…فتّشْ عن الدافع
مع تعاقب التطورات العسكرية والسياسية في سورية، وتعقّد مشهد تقارب وتنافر القوى الإقليمية والدولية، وتشظي الشبان الذين حملوا السلاح، ضمن فصائل ومجموعات كثيرة على اختلاف توجهاتها، طال أمدُ المعارك، وتبلورت معالم حروبٍ لن تنتهي قريباً، فظهرت للمقاتلين إشكالية تدبير شؤون معيشتهم.
فبعد مرور تسعِ سنواتٍ من المعارك، في شمال غرب سورية، وما تخللها من موجات نزوح ضخمة، وتنقل آلاف العائلات عدة مراتٍ من قرية لأخرى، ومخيمٍ لآخر؛ ومع تهاوي النشاط الاقتصادي وقلة فرص العمل وضعف الأجور، هبطت مؤشرات الاقتصاد والتنمية في هذه المناطق لمستويات قياسية.
شَكلتْ هذه العوامل، ضغطاً إضافياً على جزءٍ كبيرٍ من المقاتلين، فعينهم الأولى نحو خط النار الذي يشتعل ويخمد، والعين الثانية تراقب حال عائلاتهم التي تعاني شظف العيش والنزوح أحياناً.
يضاف إلى ذلك، أن تجميد المعارك في سورية، بفعل الاتفاقيات السياسة، بين القوى الدولية والإقليمية الفاعلة، دفعَ جزءً من حَملَةِ السلاح، لإجراء مراجعاتٍ ذاتية، وفَتحَ لديهم أسئلة الجدوى والمستقبل.
ففي حالة الشاب محمد خالد الشحنة، روى مقربون منه لـ”السورية.نت”، إنه تنقل بين عدة فصائل، بداية من “كتيبة الشهيد رامي بديوي” في معرة النعمان، وصولاً لسنة 2016، إذ قَلصَ نشاطه العسكري، قبل أن يعمل لأشهر كمدربٍ عسكري في “فيلق الشام”، ثم قرر متابعة تعليمه وحصل على الثانوية العامة في إدلب.
التحق محمد بعد ذلك بـ”جامعة حلب الحرة” كلية “إدارة أعمال” الواقعة في مدرسة أبي العلاء المعري، بمدينة معرة النعمان، لكن إدارة الجامعة المُقربة من “الحكومة المؤقتة”، اصطدمت بـ”حكومة الإنقاذ” التي وُلدت حينها في إدلب، وأرادت السيطرة على الجامعة، فبدأت اعتصامات واحتجاجات للطلاب والكوادر التدريسية أدت لإغلاق الجامعة إلى حين.
ويقول لـ”السورية.نت”، صديق محمد خالد الشحنة منذ الطفولة،(م.م)، إن الاضطرابات التي حصلت بالجامعة “أحبطت محمد الذي أقلع عن فكرة متابعة التعليم، والتفت إلى العمل في بيع قطع السيارات، فتحسن دخله المادي وبدأ يفكرُ بالزواج”، قبل أن تبدأ سنة 2019، حملة قوات النظام الضخمة على أرياف إدلب الجنوبية، التي سقطت فيها لاحقاً مدينة خان شيخون.
تهاوت مُجدداً حركة التجارة الراكدة أساساً، في مناطق شمال غرب سورية، وتراجع عمل محمد ببيع قطع السيارات، مع الحملة العسكرية المذكورة، التي استمرت في النصف الثاني من سنة 2019، وأدت بالنهاية لسقوط مسقط رأسه معرة النعمان بيد النظام، في 29 يناير/كانون الثاني 2020.
يقول صديق محمد الشحنة الذي طلب عدم ذكر اسمه الكامل، إن “الإحباطات الكثيرة التي تعرض لها محمد، من فشل مشروع متابعة تعليمه، لضعف فرص العمل والدخل المادي، وصولاً لسقوط مدينته التي قاتل فيها لأول مرة في حياته، لم تثنه عن المحاولة مُجدداً، فبدأ يُحضر للامتحان المعياري (يوس-YÖS) ، لكي يحصل على مقعد في جامعة غازي عنتاب- فرع مدينة الباب بريف حلب”.
لكن محمد فشل في مارس/آذار 2020، بالتسجيل على الامتحان المعياري، لعدم امتلاكه إحدى الأوراق المطلوبة(هوية صادرة عن المجلس المحلي)، فكتبَ سيرة ذاتية، وبدأ يبحث عن فرصة عمل، في وقتٍ بدأ فيه انتشار فيروس “كورونا”، وما تبعه من تأثيراتٍ فرملت العجلة الاقتصادية المتعثرة أساساً، فاعتزم السفر للعمل في تركيا، وتأسيس وضع مستقرٍ يُمهد لزواجه المُرتقب.
أوقف دوريةٌ لـ”هيئة تحرير الشام” محمد خالد الشحنة، بينما كان يعتزم الدخول لتركيا عبر طرق التهريب، وسُجن ثلاثة أيام، قبل أن يعود لمكان نزوح أسرته في معرة مصرين شمال إدلب، ومنها إلى مدينة الباب شرق حلب، بحثاً عن طريق آخر لتركيا، لكن هذه المرة من مناطق “درع الفرات”، وهناك سمع بقصة أذربيجان لأول مرة في حياته، وأرسلَ لأصدقائهِ فجأة: “سأسافر.. أخبَرونا أننا سنقوم بحراسة منشآتٍ ومقرات عسكرية”، مقابل عائدٍ مغرٍ لكثيرين.
انسداد أفق..واندفاع
محمد ككثيرين ممن سافروا للقتال خارج حدود بلادهم، نَبت شاربه تحت القنابل، واشتد عوده زمن المعارك التي خاضها لسنوات، قبل أن تتلاشى فرصُ فتح المزيدِ منها للمضي قدماً، بفعل الاتفاقيات السياسية بين القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في سورية.
يقول الصحفي عدنان علي لـ”السورية.نت”، إن “انسداد الأفق أمام جيل الشباب، وقلة فرص العمل والدخل، مع عوامل الاندفاع وحب المغامرة لمن عرف المعارك، تلعب دوراً جوهرياً في سلوك بعض الشباب طريق القتال في جبهات بعيدة عن حربهم”، مُضيفاً:”أنا صاحب تجربة بهذا الخصوص، كنت سأسافر من سورية في أواسط الثمانينيات من القرن الماضي، للقتال إلى جانب الجيش الليبي في حربه ضد تشاد”.
ويضيف الصحفي الفلسطيني-السوري المقيم حالياً قرب باريس “كنت شاباً يافعاً تخرجت من جامعة دمشق حينها، وشاركت في بعض معارك حرب لبنان مع الفصائل الفلسطينية، وكانت ليبيا تخوض آنذاك حرباً مع جارتها تشاد حول إقليم أوزو، فذهب بعض مقاتلي الفصائل الفلسطينية إلى ليبيا لمؤازرة قوات القذافي، مقابل راتب شهري مُعتبر. وكنت حينذاك أبحث عن وسيلة للسفر بأية طريقة، وسجلت اسمي فعلاً للذهاب الى ليبيا، لكن لحسن الحظ توقفوا عن أخذ المزيد بعد أن هدأت المعارك، ولم أسافر”.
ويقول دكتور علم الاجتماع، المقيم حالياً في فرنسا، طلال مصطفى، إن “موضوع خروج الشباب السوريين للقتال خارج سورية، له عدة عوامل وأبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية ومعيشية، وحتى شخصية”، معتبراً أن “خروج الشبان السوريين للقتال في الخارج أتى بعد التدهور المعيشي الذي حصل في سورية، ووصول نسبة الفقر إلى فوق 90 %، أيضاً 70 % تحت خط الفقر، الأمر الذي فرض مجاعة حقيقية”.
ويضيف طلال مصطفى، المُحاضر السابق في جامعة دمشق، خلال حديثه لـ”السورية.نت”، في معرض تعليقه على ذهاب سوريين من مناطق المعارضة و النظام للقتال في الخارج :”هؤلاء العناصر يخرجون للقتال من أجل الحصول على مبالغ مالية، بسبب انقطاعها في سورية (…) حتى لو كان لديهم حس أخلاقي ومجتمعي وأرادوا ترك القتال، فلن يكون بالأمر السهل، ولاسيما بعد عشر سنوات من الحرب، فهم أشخاص لم يتدربوا على مهن معينة، وسيواجهون صعوبات للبدء بمهنة معينة، للعمل بها، مقابل الحصول على دخل، لذلك فإن القتال في الخارج هو الطريق الأسهل للحصول على المال”.
الاشتباك عند النقطة صفر
أواسط سبتمبر/أيلول الماضي، وصل محمد خالد الشحنة، لأذربيجان، ومن هناك أرسلَ لأصدقائه المقربين في سورية:”المعارك هنا طاحنة..طيرانٌ حربي يقصفْ، وراجمات الصواريخ لا تتوقف، القتال عنيف، وَضَعونا في النقطة صفر”.
من خلال مراسلة محمد، لأصدقائه في محافظة إدلب وغيرها، فإن بعضهم روى لـ”السورية.نت”، إن محمد خالد الشحنة، كان يأمل أن يعود بعد أسابيع، أو أشهر قليلة على أبعد تقدير، من أذربيجان لشمال غرب سورية، حيث يعتزم الزواج، واستطاع في أذربيجان أن يعمل “كسائق سيارة عسكرية، تنقل المقاتلين من الثكنات العسكرية الأذربيجانية المتموضعة قريباً من خط الجبهة، لنقاط المواجهة المتقدمة”.
بالتزامن كانت أسرة محمد خالد الشحنة، قد أتمت خطوبته، وأرسلت له رسالة عبر تطبيق “واتس آب”، أنها بانتظار عودته بأسرع وقت لإتمام إجراءات الزواج، لكن محمد لم يستلم الرسالة أبداً.
ففي نفس اليوم توجه بسيارته العسكرية، لإخلاء مقرٍ عسكري للجيش الأذربيجاني تعرض للقصف، وبينما كان مع آخرين يحاولون سحب جثث القتلى وإسعاف الجرحى، استقرت رصاصة في رأسه.
في ساعة متأخرة من مساء السبت 3أكتوبر/تشرين الأول، حَمل صهر محمد خالد الشحنة مع آخرين، النعش الذي كُتب عليه رقم 18، من نقطة حدودية بين سورية وتركيا، ووصلوا إلى معرة مصرين نحو الواحدة ليلاً، حيث روى صديقه الذي كان حاضراً لـ”السورية.نت”، إن “أهل محمد ودّعوا جثمانه، وزغردت نسوة العائلة اللواتي كن ينتظرن عودته ليحتفلن بزفافه”.
يقول الشاهد:”حملنا النعش من البيت، و وصلنا للمقبرة في معرة مصرين، مع عدد من أفراد أسرته وأصدقائه، صلينا عليه هناك، وأصر والده أن يُدفنَ محمد داخل نعشه، على أمل أن تُعيد العائلة الجثمان إلى مسقط رأسه، معرة النعمان، إن عادت”.
طوعاً أم كُرهاً؟
قصة محمد خالد الشحنة، تُشبه قصص سوريين آخرين، حُمِلوا على حَملِ السلاح، فَقُتلوا في معارك يبدو أنهم سِيقوا إليها طوعاً، مُكرهينَ بعوامل عدة، ودفنوا أخيراً في مقابر النزوح.
وخلال الأيام القليلة الماضية، من أكتوبر/تشرين الأول الحالي، وصلت جثامين شبانٍ قتلوا في أذربيجان، لشمال غرب سورية، إذ يقول شاهد عيانٍ في ريف حلب الشمالي لـ”السورية.نت”، إن “نحو عشرة نعوشٍ وصلت يوم الأربعاء الماضي، لريف حلب الشمالي، معظمها تحوي جثامين شبانٍ تركمان من مواليد قرية قزحل، غرب حمص، التي هُجّرَ أهلها منها” في يونيو/تموز سنة 2016.
قبل ذلك بأيام قليلة، وصلت ودُفنت بريف حلب الشمالي، جثامين الرائد كنان فرزات (أبو محمد)، وثلاثة من أبناء مدينته الرستن (شمال حمص)، وهم ياسر فرزات، وليد الأشتر، بلال الطيباني.
يقول أحد أقرباء كنان فرزات(وطلب عدم ذكر اسمه)، إن كنان “يُعرف بين أصدقائه العسكريين وضمن الوسط الاجتماعي لأهالي ريف حمص الشمالي، وفي مدينة الرستن بالخصوص، بأنه شاب مقدام من خيرة ضباط المدفعية، الذين قاتلوا ضمن الجيش الحر، على مدار السنوات الماضية، وصولاً لاتفاقية التهجير الأخيرة لمناطق ريف حمص الشمالي في عام 2018”.
يحمل كنان فرزات (عمره 35 عاماً)، رتبة رائد في “الجيش الوطني” المتواجد بريف حلب الشمالي، وقُتل في محيط إقليم “قره باغ” مطلع الشهر الحالي، إذ يقول قريبه، إن “كنان خرج للقتال في أذربيجان بشكل اختياري، بعد تقديم عدة عروض له من قبل سماسرة”.
وحسب رواية قريب كنان فرزات، وروايات أخرى طابقها فريق “السورية.نت”، فإن العروض تكون تحت بند “حماية القواعد العسكرية الموجودة في محيط الإقليم”، وبراتبٍ يتراوح بين 1300 و1700 دولار شهرياً.
يضيف قريب القتيل بأن “الفقر والحاجة، والزهد فيما بعد” كان الدافع الرئيسِ لخروج “الرائد كنان” للقتال في الخارج، إذ “كان يتلقى مرتباً بقيمة 400 ليرة تركية لكل 45 يوماً، وهو مبلغ لا يكفيه لإعالة عائلته، وعائلات أخوته الشهداء الثلاثة، والذين بقوا حالياً بعد مقتله دون مُعيل”.
يقول الصحفي المتواجد في شمال غرب سورية، ماجد عبد النور، لـ”السورية.نت”، إن “السبب الأول والرئيس، لسفر بعض الشباب للقتال في الخارج، هو السبب المعيشي، فالأهالي في الشمال السوري ماتت من الفقر والبطالة، والذي يخرج للقتال في الخارج يَعي أنه قد يموت، ومع ذلك يضع في حسبانه أنه في حال عودته سالماً سيعود ببعض الدولارات، والتي من شأنها أن تؤسس له مشروعاً يعيش من خلاله، في السنوات المقبلة”.
يعتبر ماجد عبد النور، أنه “لا توجد أسباب أخرى، ولا يوجد أي إجبار للخروج من قِبل أي طرف(…) لكن الفقر والعوز هو السبب. الرواتب الشهرية التي تقدمها الفصائل في الشمال السوري لمقاتليها لا تذكر..البعض منها تعطي 400 ليرة تركية(نحو 50 دولار)، والبعض الآخر 200 ليرة تركية(نحو 25 دولار أمريكي)”.
ويقول ذات المتحدث، إنه “بالنسبة والتناسب، فإن عدد المقاتلين الذي خرجوا للقتال في الخارج قليل جداً، قياساً بأعداد الشبان السوريين المقيمين في الشمال السوري، والذي يضم شباناً من مختلف المحافظات السورية. وقسم كبير من الذين ذهبوا ليسوا عسكريين أساساً بل فيهم مدنيون لم يحملوا السلاح يوماً، ولا يتبعون لأي فصيل عسكري، وهو أمر يرتبط بما ذكرناه سابقاً، بشأن الفقر الشديد، فالشخص الذي يخرج ورغم وصف الارتزاق الذي سيوسم فيه، يفضل الخروج تحت نظرية: إما الجوع، أو الحصول على المال الذي يوفرُ فرصة بعد العودة ، إن تمت”.
من الشمال للجنوب: تفاصيل مختلفة لنفس النتيجة
لا تقتصر قضية سفر الشباب من سورية، للقتال في الخارج، على منطقة جغرافية، فكثيرون خرجوا من مناطق سيطرة النظام المختلفة، للقتال في الخارج مؤخراً؛ فقد كشفت شبكة “السويداء 24″، في فبراير/شباط الماضي، عن نشاط حزب سياسي، سوري مرخص من نظام الأسد، في عمليات تجنيد شبانٍ للقتال إلى جانب قوات خليفة حفتر في ليبيا، مقابل عائد مادي يتراوح بين 1000 و1500 دولار أمريكي شهرياً.
وفيما تتم عمليات التجنيد في محافظة السويداء، إلى جانب محافظات أخرى تخضع لسيطرة نظام الأسد، فقد قالت ذات الشبكة، في تقرير نشرته يوم 16 فبراير/شباط الماضي، إنها حصلت على معلومات ووثائق تثبت ضلوع “حزب الشباب السوري الوطني”، بالسعي لتجنيد شبانٍ من مناطق سورية مختلفة، بينها السويداء للذهاب إلى القتال في ليبيا.
وتتم عمليات التجنيد بإشراف مجموعة “فاغنر” الروسية، ويضطلع بها في سورية، أمين فرع “حزب الشباب السوري الوطني” في محافظة السويداء، شبلي الشاعر، حسبما قالت شبكة “السويداء 24″، والتي كشفت حصولها على وثائق بينها تسجيلات صوتية ومحادثات نصيّة لشبلي الشاعر، يدعو من خلالها شباباً للقتال في ليبيا، مقابل عروض مختلفة يطرحها، منها تسوية أوضاع المطلوبين بقضايا أمنية أو بنشرات للخدمة الاحتياطية داخل سورية.
وحسب رواية شابٍ من السويداء، طلب عدم ذكر اسمه في حديثه لـ”السورية.نت”، فإن أحد أصدقائه سافر إلى ليبيا فعلاً، حيث “نُقل بحافلات من السويداء الى اللاذقية، وعندما وصل إلى قاعدة حميميم في اللاذقية تم سحب هاتفه المحمول، قبل أن يُنقل إلى بنغازي، ولم أستطع التواصل معه من حينها”.
وفي يوم 10 يوليو/تموز 2020، نشر موقع “درج” الصحفي، تحقيقاً مطولاً، يثبت تجنيد ألاف الشباب من محافظات سورية مختلفة يسيطر عليها نظام الأسد، للقتال في ليبيا.
وسردَ التحقيق رواية أحد الشبان الذين سافروا إلى ليبيا، إذ قال بأن مكاتب التجنيد بغطاء “مكاتب عقارية”، موجودة “في جرمانا واللاذقية وطرطوس ودير الزور(…)هناك عشرات التحقوا مثلي بالقتال في ليبيا من أبناء الساحل السوري ومن مختلف الملل والطوائف”.
إضافة لذلك، فقد نشرت منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، يوم الثامن والعشرين من يوليو / تموز الماضي، تقريراً قالت فيه إن شركة أمنية روسية، تنشط بمناطق سيطرة نظام الأسد، جندت 3 آلاف سوري من مختلف المحافظات، للقتال في ليبيا، إلى جانب قوات خليفة حفتر.
أرضٌ خصبة للشركات المُجَنِدة
استقصى فريق “السورية.نت”، عن طُرق التجنيد، وهي عديدة، غير أنها مختلفةٌ في التفاصيل، مُتشابهةٌ في العناوين، كما لا يمكن حصر المسألة، لتشعبها بين السياسي والأمني والاجتماعي، و يبدو أن وجود عددٍ كبير من الشبان في خضم وضعٍ اقتصاديٍ يزداد تردياً، يفتحُ عين المُجَنِدينَ، على سوقٍ فيه آلاف الشباب الذين عرفوا القتال وألفوا خوض المعارك، وضاقت أحوالهم المادية، وتسرب لنفوسهم الإحباط من استئناف معاركهم الأولى، فوجدوا ثغرةً يهربون فيها من فقدان الجدوى.
يقول دكتور علم الاجتماع، طلال مصطفى، لـ”السورية.نت”، إن هذه الشريحة من الشباب “امتهنت الحرب وبات مكوناً من شخصيتها وبالتالي يرون فيها ربما متعة على الصعيد النفسي والشخصي”، مُعتبراً أنه “وفي حال حصل حل سياسي في سورية الآن، أو في وقت لاحق، نحن بحاجة لبرامج نفسية واقتصادية واجتماعية لعلاجهم وتأهيلهم وتدريبهم على مهن معينة”.
ويختم بقوله:”طالما ليس هناك أي حل سياسي، سنرى هؤلاء يتنقلون من دولة لأخر حسب سياسة العرض والطلب، ولا نستطيع إلا أن نصنفهم ضمن مجموعات المرتزقة، وتاريخياً هذا التوصيف موجود في كل المجتمعات..مجموعات تقاتل من أجل الحصول على المال”.
بالمقابل، يرى الصحفي عدنان علي، الذي كاد يخوض تجربة القتال في جغرافية بعيدة عن موطنه، قبل نحو 35 عاماً، أنه “من السهل اطلاق التوصيفات على الذاهبين للقتال من سورية الى ليبيا أو أذربيجان، ولا شك أن التصنيف السياسي لهم أنهم مرتزقة، كون معظمهم لا يعرف أساساً ماهية المعارك التي ذهب لخوضها، لكن التصنيف الإنساني، أنهم أناس وصلوا الى طريق مسدود، ويبحثون عن أي بقعة ضوء في حياتهم وخياراتهم المظلمة. هم يدركون انهم ليسوا في رحلة عمل أو سياحة، بل ينتقلون من حرب الى حرب، واحتمال موتهم أو إصابتهم وارد، لكنه احتمال قائم حيث هم في سورية ايضاً، مع فارق أن راتبهم هناك اضعاف ما يتقاضونه في سورية”.
ويختم الصحفي بالقول:”حين تنغلق الآفاق أمام الانسان، لا ينبغي أن نتوقع منه خيارات عقلانية، والظروف التي يعيشها الناس في سورية، بما في ذلك حاملي السلاح مُحبطة ومغلقة ولا تحمل أملاً.. إنها مطحنة للفقراء وصغار القوم، بقدر ما هي مغنمة لتجار الحروب والأوطان”.