مراد عبد الجليل – السورية.نت
بعد سنوات طويلة تنقل فيها بين مختلف الجبهات وتيارات “الجهاد”، وبعد أن عاش أسابيعه الأخيرة بين تُهم “الخيانة” و”العمالة” والسجن ثم “البراءة”، انتهت حياة ميسر بن علي الجبوري الملقب بـ”أبو ماريا القحطاني” بشكل دراماتيكي، في إدلب.
وبينما نشرت “هيئة تحرير الشام”، مشاهد مصورة تُظهر زعيمها أبو محمد الجولاني بجوار جثمان القحطاني، أثار مقتله بعد سجنه ثم الافراج عنه، تساؤلات كثيرة، خاصة لكونه كان في عين عاصفة تعيشها “هيئة تحرير الشام” مؤخراً.
وبينما علق أنصار الهيئة على الصورة بـ”الوداع”، علق آخرون بالقول “قتله ومشى في جنازته”، في إشارة إلى اتهامهم الجولاني بالوقوف وراء اغتيال القحطاني بتفجير في إحدى المضافات في سرمدا شمال إدلب، أمس الخميس.
من “عميل وجاسوس” إلى “بريء” وصولاً لوصفه بـ”شهيد الغدر” هي محطات القحطاني، مع الهيئة وزعيمها الجولاني، خلال الأشهر الثمانية الماضية، قبل إسدال الستار عن شخصية “الخال” كما يلقب.
هذه المحطات الأخيرة، وما شابها من توتر وتصاعد الخلافات، جاءت بعد مسيرة طويلة بين رفيقي الدرب و”أخوة المنهج” كما يطلق عليهم، امتدت لسنوات بدءاً من تعارفهما في سجون العراق قبل الثورة، وصولاً إلى تحول القحطاني للرجل الثاني وكاتم أسرار الجولاني في “جبهة النصرة” ولاحقاً “تحرير الشام” في شمال سورية.
وتعدد الروايات حول مقتله، وبينما تقول “تحرير الشام” إن عنصراً من تنظيم “الدولة الإسلامية” فجر نفسه بالمضافة، قال قياديون سابقون في الهيئة إن القحطاني قتل بانفجار لغم وضع داخل سيف تم إهداؤه له.
من هو “الخال”؟
ولد أبو ماريا القحطاني في قرية الرصيف عام 1976، وحيد على ثمان شقيقات، ثم انتقل مع عائلته إلى قرية هرارة العراقية وتربى بكنف والده “أبو ميسرة”، المعروف بفكره السلفي والذي أعطاه لقب “الوهابي”.
مسيرة القحطاني مع الجماعات الجهادية بدأت عام 2003 بعد الاحتلال الأمريكي للعراق بشكل مباشر، حيث كان أحد أعضاء الجماعة السلفية التي يتزعمها محمد خلف شكارة “أبو طلحة الأنصاري”، التي كانت عماد جماعة “التوحيد والجهاد” قبل بيعة أبو مصعب الزرقاوي “للقاعدة”.
شارك في معركتي الفلوجة الأولى والثانية ومعارك أخرى في تل عفر والموصل وبغداد، وفي نهاية عام 2003 استلم القحطاني قيادة كتيبة “التهلكة”، وبعدها بأشهر عُين مسؤولاً عسكرياً بين الموصل وصلاح الدين، حسب ما كتبه الصحفي، محمد حسان في موقع “درج”.
وبعد وصول قائد “تحرير الشام” حالياً، أبو محمد الجولاني إلى سورية مكلفاً من تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق”، أبو بكر البغدادي، لتأسيس فرع للقاعدة في مايو/ أيار 2011، تعرف على القحطاني الذي كان دخل سورية في 2010 للعلاج.
وحسب الباحث حذيفة عزام نجل عبدالله عزام، الذي يعتبر من قادة “الجهاد الأفغاني”، فإن القحطاني والجولاني تعرفا على بعضهما في سجن العراق، قبل لقائهما في الشام.
وأشار عزام في شهادة نشرها في 2017 إلى أن القحطاني كان “من أوائل الذين بايعوا الشيخ الجوﻻني في سورية”، وأصبح من “ألصق الناس به ومن الدائرة الخاصة التي كانت حوله من البداية”.
وبعد انفصال الجولاني عن البغدادي وتصاعد الصراع بينهما، أوفد القحطاني إلى المنطقة الشرقية في سورية، وهناك بدأ فصل الصراع بين “جبهة النصرة” و”داعش”.
وحسب رواية “عزام” عن هذه الحقبة، فإن “القتال كان على أشده ولم تستطع داعش حسم المعركة حتى استعانت بما جلبته من الموصل، وحسمت داعش المعركة في دير الزور وفي البادية”.
بعد فشل القحطاني في الشرق وخسارة “جبهة النصرة” واحداً من أهم مصادرها الاقتصادية، عزله الجولاني من مركزه كشرعي عام لـ”جبهة النصرة”، حسب عزام، الذي أكد أن القحطاني توجه مع أسود الشرقية إلى جنوب سورية.
في الجنوب بدأ القحطاني بتشكيل جيش لتقوية فرع النصرة في درعا، قبل أن يبدأ معاركه مع “لواء جيش اليرموك” الذي بايع “داعش” لكن جميعها باءت بالفشل.
واستمر تواجد القحطاني في درعا لعدة أشهر، وبعد فشله في القضاء على فرع تنظيم “داعش” خرج ومن معه من قيادات وعناصر من أبناء منطقة الشرقية، إلى إدلب بالشمال السوري، مروراً بمناطق النظام بعد دفع رشاوي كبيرة للحواجز الأمنية، حسب “درج“.
بداية النهاية
بعد وصوله إلى الشمال السوري أصبح القحطاني عضو مجلس شورى في “فتح الشام” ثم “هيئة تحرير الشام” كما أصبح مقرباً من الجولاني، حتى لقب بصندوق أسراره.
وبسبب علاقاته القوية وشبكات تواصله مع أبناء المنطقة الشرقية، تمكن من تأسيس شبكة قوية داخل الهيئة موالية له بما يعرف بـ”تيار الشرقية”.
لكن العلاقة بين الجولاني والقحطاني بدأت تأخذ منحى مختلفاً، خلال الأشهر الماضية، عندما تم اعتقاله بتهمة “العمالة” وتواصله مع جهات خارجية، وبعد إعداد ملف اتهام واسع ضده من قبل التيار المنافس “بنش”، وتقديمه للجولاني، يضم تسجيلات صوتية لتواصله مع جهات خارجية بهدف تنظيم انقلاب على قيادة الهيئة، حسب قيادي سابق في “هيئة تحرير الشام”، لـ”السورية. نت”.
لكن بعد أشهر من اعتقاله، وبعد غضب قادة عسكريين موالين له وتهديدهم للجولاني بالهجوم على السجون، أطلق سراحه بعد تبرئته من التهم الموجهة إليه.
وحسب القيادي السابق في “الهيئة” حسان برد فإن “الجولاني أخرج القحطاني بسبب ضغوطات خارجية، لكن القحطاني لم يلتزم بالاتفاق مع الجولاني بأن يقف على الحياد”.
ويقول برد لـ”السورية. نت” إن “الجولاني كان يشاهد تحركات القحطاني والاستقطابات” بعد خروجه من السجن.
ويضيف أن “عدة مصادر أخبرته أن القحطاني يسب الجولاني ليلاً ونهاراً، ويتجهز للانقضاض عليه، وهذا يظهر من كم اللقاءات والزيارات للقحطاني، كما لم يظهر أبو ماريا في أي صورة مع الجولاني بعد السجن ” على خلاف القادة العسكريين الذين أطلق سراحهم.
ويرى برد أن “الجولاني لم يكن أمامه أي خيار سوى قتل القحطاني”، مشيراً إلى أن “الجولاني تغدى بالقحطاني قبل أن يتعشى به”.
واعتبر أن “الجولاني من النوع الذي يصبر إلى حد معين، فهو يوازن بين المصلحة والمفسدة”.
روايات متعددة
وتعددت الروايات حول مقتل القحطاني، بين رواية “تحرير الشام” والمقربين منها، وبين قياديين سابقين انشقوا عن “تحرير الشام”.
وبعد التفجير مباشرة بدأت وسائل إعلام محسوبة على “الهيئة” الترويج بأن القحطاني قتل جراء تفجير انتحاري.
وقالت “وكالة أنباء الشام” التابعة لـ”حكومة الإنقاذ”، إن “يد الغدر طالت الشيخ أبي مارية القحطاني، بعد تعرضه لعملية انتحارية داخل مضافته في مدينة سرمدا شمالي إدلب”.
وأضافت الوكالة أنه “سرعان ما تكشفت خيوط وتأكد ضلوع تنظيم داعش في العملية”، واصفة القحطاني بأنه “شهيد الغدر”.
وحسب بيان “حكومة الإنقاذ” فإن ثلاثة أشخاص دخلوا مضافة كان القحطاني يستقبل فيها ضيوفه، وقام أحدهم بتفجير نفسه بواسطة حزام ناسف ما أدى إلى مقتل القحطاني وإصابة آخرين.
ويقول وزير الداخلية في “حكومة الإنقاذ” محمد عبد الرحمن، إن الأشخاص الثلاثة “يتبعون لتنظيم الدولة”، مشيراً إلى استمرار البحث لإلقاء القبض عليهم.
ورغم أن تنظيم “داعش” لم يتبن عملية اغتيال القحطاني حتى مساء اليوم الجمعة، فإن التنظيم له ثأر كبير مع القحطاني بسبب دوره في انفصال “جبهة النصرة” عن القاعدة و”داعش” وقتاله لفروعهما في سورية.
أما الرواية المقابلة فكانت لقيادين سابقين منشقين عن “الهيئة” الذين أشاروا إلى أن القحطاني قتل بانفجار لغم وضع داخل سيف تم إهداؤه له، متهمين الجولاني بالوقوف وراء العملية.
ومن هذه الآراء صالح الحموي، وهو أحد مؤسسي “جبهة النصرة” ويعمل حالياً كـ”باحث سياسي مختص في الجماعات الجهادية”.
وقال الحموي صاحب قناة “أس الصراع في الشام” عبر تلغرام، إن الأشخاص الثلاثة أهدوا القحطاني سيفاً داخل صندوق كبير، ثم خرج اثنان وبقي واحد اقترب من القحطاني يعانقه وهنا وقع الانفجار وصندوق السيف كان يحمله القحطاني”.
وأضاف أن الشخص الذي نشرت صورته إما “لايعلم أن الصندوق ملغم وفجروه الاثنان اللذان خرجا من المضافة، أو كان يلبس حزاماً وتم تفجيره عن بعد، وأستبعد هذه الرواية لعدم وجود علامات على شظايا في جسم القحطاني والشخص هذا”.
وأشار إلى أن “طبيعة الانفجار هي نسف وهذا يعني مادة متفجرة، وليس كرات فولاذية كما في الحزام”، متهماً الجولاني بالوقوف وراء العملية.
كما أشار إلى أن تنظيم “الدولة الإسلامية” لم ينفذ أي تفجير في إدلب منذ ثلاث سنوات، بسبب اتفاق مع الهيئة مقابل السماح لعائلاتهم بالتنقل والسماح لكل قيادي بزيارة زوجته من البادية، متساءلاً “لمَ الآن تمكنت من ذلك بعد خروج القحطاني حصراً”.
وحسب القيادي السابق حسان برد، فإن “ما حدث اليوم هي تصفيات داخلية داخل صفوف الهيئة، ويستحيل ألا يكون المشرف على العملية الجولاني، لأن المضافة دقيقة الحراسة والتفتيش”.
في المقابل رجح الباحث في مركز عمران للدراسات، نوار شعبان، عدم وقوف الجولاني وراء اغتياله، وقال لـ”السورية.نت” إنه “رغم الخلاف مع القحطاني لكن لا يصل تصفيته بهذا الشكل”.
وأضاف أن “الجولاني أذكى من الإقدام على هكذا اغتيال، بل على العكس سيكون هناك تحرك أمني من قبل الهيئة للقبض على الخلية التي نفذت الاغتيال”.
ماذا ينتظر إدلب؟
وجاء اغتيال القحطاني في وقت تشهد فيه مدن وبلدات إدلب مظاهرات واسعة ضد الهيئة والجهاز الأمني، وتزايد المطالبات بإسقاط الجولاني.
وبعد دقائق من اغتيال “الخال”، اعتبرت “وكالة أنباء الشام” التابعة لـحكومة الإنقاذ” أن “عملية الاغتيال جاءت في توقيت حرج للغاية، لأن المنطقة على صفيح ساخن لا يحتمل التصعيد”.
وأكدت أنه “ليس من مصلحة بالتصعيد إلا لمن يريد الشر للمنطقة وقيادتها”.
ويرى شعبان أن حادثة الاغتيال ستكون لها “تداعيات أمنية” لكنها لن تؤدي إلى حدوث اضطرابات وعدم استقرار في إدلب.
وأشار إلى أن الهيئة سوف تستغل الحادثة في إعادة الثقة لحاضنة معينة داخل الهيئة.
وقال شعبان إن الهيئة سابقاً لم يكن لديها الحجة القوية للقيام بعمليات أمنية ضد فئات معينة، لكن بعد اغتيال القحطاني سيكون لديها الذريعة القوية للقيام بهذه العمليات تحت حجة ضبط الخلية التي نفذت التفجير.
وأضاف أن “الهيئة سوف تحاول الاستفادة من الحادثة عبر اللعب سياسياً”، ورغم الضغوط التي ستمارس عليها من جهات أخرى، إلا أنها لن تتأثر في بنيتها وهيكليتها.
وأكد أن “الهيئة ماهرة في اللعب على أوتار الخلافات والمصاعب، وهي فصيل قام بمنطقة صراع”.
وتابع أن “فصائل الصراع عندما تتحول إلى دور حكومي وإداري وأمني، فهذا يعني اكتسابها خبرات في التحكم بتفاصيل المنطقة”.
وحول إمكانية تحرك تيار القحطاني والانتقام له، اعتبر برد أن “أغلب أتباعه كاذبين كانوا ينتظرون المنتصر حتى يبايعوه، ولكن هناك نسبة قليلة قد تنتقم والانتقام سيكون شديداً”.
وتوقع برد مزيداً من الاغتيالات في المرحلة المقبلة، وخاصة من رموز الحراك في الشارع.
كما توقع عبد الرزاق المهدي الذي يعتبر من أبرز الدعاة والشرعيين في الشمال السوري، أن الأمر لن يتوقف عند استهداف القحطاني.
وقال المهدي، عبر قناته في “تلغرام” “الظاهر أن البعض لهم مصلحة في إدخال المحرر في دوامة وفوضى لخلط الأوراق، فلن يتوقف الأمر باستهداف أبي ماريا”.