قد لا يكون من المهم كثيراً كشف السبب الحقيقي لقرار محافظة دمشق هدم مول الـ “Big5″ في حي الميدان، والعائد لـ بلال النعّال، بقدر ما كانت الضجة الإعلامية التي أثارها القرار، مفيدة في نفض الغبار عن سيرة رجل أعمالٍ، تختصر مشهدية تزاوج المال و”التشبيح” والسلطة، في ظل نظام الأسد. والتي تقدّم ترجمة عملية للمثل الشعبي، الذي يُوجز متوالية صعود الفاسدين، بالقول: “بيروح الشبعان بيجي الجوعان”. من دون أن يلغي ذلك، إمكانية إعادة تدوير “الشبعانين” السابقين، الذين لا يشبعون أبداً.
وسواء أكان، قرار المحافظة بهدم المول، جراء رفض النعّال، تسديد أتاوة لمكتب زوجة رأس النظام، أسماء الأسد، بقيمة 15 مليار ليرة سورية (نحو مليون دولار وفق أسعار الصرف في السوق السوداء)، أو كان نتيجة صراعات “أمراء الحرب”، وفاسدي السلطة، وتراجع نفوذ داعمي النعّال، أو كان بغية تصدير صورة للمواطن السوري بأن النظام يكافح الفاسدين، حتى النافذين منهم، أو كان بهدف تشتيت الانتباه بعيداً عن استيلاء إيران على المزيد من مقدّرات السوريين بصورة متصاعدة في الأشهر الأخيرة.. أياً كانت الأسباب الحقيقية لهذا القرار، تبقى سيرة النعّال، وتشابكات علاقاته، هي الأكثر إثارة للاهتمام، والتي تستوجب المزيد من الإضاءة.
فالعضو الحالي في مجلس الشعب، والسابق في مجلس محافظة دمشق -ذاتها التي قرر مسؤولوها الحاليون هدم المول العائد له-، عقد خلال صعوده شبكة متينة من العلاقات مع مسؤولين، أبرزهم، بشر الصبان، المحافظ التاريخي لدمشق، طوال 12 عاماً حالكة في تاريخ المدينة (2006 – 2018)، أثبت خلالها ولاءً استثنائياً للنظام، وأشرف على هندسة مخططات تنظيمية لتغيير ديمغرافية دمشق، بصورة تقلّص من التجمعات السكانية المناوئة للنظام، وتنتقم منها، وفي الوقت نفسه، تحقق مكاسب استثمارية – عقارية، هائلة، لرجال الأعمال المقرّبين من الأسد. فكان المرسوم 66 الذي قضى بإخلاء منطقة بساتين المزة، خلف مبنى السفارة الإيرانية، ومن ثم، القانون رقم 10، الذي قضى باستملاك أملاك اللاجئين والنازحين السوريين في حال عدم قدرتهم على إثبات ملكية منازلهم المدمّرة، ليُطبّق على حي التضامن، وأحياء أخرى. وفي معرض هذا المسعى، أسّس الصبان، شركة “دمشق الشام” القابضة، التي كُلّفت بتنفيذ مشاريع عقارية فارهة، مكان أملاك السوريين المُصادرة تلك. وكان بلال النعّال، عضواً في مجلس إدارة هذه الشركة. ومن المفارقات اللافتة، بهذا الصدد، ما أشارت إليه جريدة “زمان الوصل” الالكترونية، في تقرير قديم لها، يعود إلى العام 2017، حينما أوردت مقتطفات من مقابلة صحافية مسجّلة للنعّال، يروّج فيها لشركة “دمشق القابضة”، وللمناخ الاستثماري الآمن والقانوني في سوريا، قال فيها حرفياً: ” اليوم إنتو عم تقولوا روتين.. هي قطاع خاص شركة خاصة دمشق الشام.. أعضاء مجلس إدارتها خاصين.. مشان ما نقول عنا روتين صعب، وعنا شغلات ما بتصير.. بكرا شلحونا هاد المول.. شلحونا هاد المشروع.. هاد كله على الإطلاق ممنوع مو موجود عنا!!”. وبعد بضعة أسابيع فقط، قام النظام بـ “تشليحه”، مول قاسيون، في مساكن برزة بدمشق، لصالح رجل أعمال صاعد، آخر، “جوعان”، هو وسيم القطان. قبل أن يحصل النعّال على تعويض تمثّل في مول الـ “Big5” في الميدان، بدعمٍ من محافظ دمشق، السابق أيضاً، عادل العلبي، والذي كانت له حصّة في المول الأخير، باعها لاحقاً للنعّال.
علاقات الأخير، لم تنحصر بمسؤولي المحافظة، بل امتدت إلى علاقة وطيدة مع مفتي سوريا السابق، والأخير، أحمد بدر الدين حسّون. والذي أسّس أولاده الأربعة (أديب، عناية الله، عبد الرحمن، ملهم)، شركة باسم “سياج للتطوير والاستثمار العقاري”، قبل أشهر فقط، من تأسيس شركة “دمشق الشام” القابضة. واختصت شركة أبناء حسون، بتطوير المجتمعات العمرانية الجديدة، “بهدف تنمية مناطق محدّدة”، في إشارة واضحة لمشاريع “دمشق الشام” القابضة، في المناطق المُستولى عليها بدمشق. وهنا يظهر دور بلال النعّال، الذي كان عضواً في مجلس محافظة دمشق، في الوقت ذاته، الذي حصل فيه على نسبة 20% من أسهم شركة أولاد المفتي السابق.
كذلك عقد بلال النعّال علاقة وطيدة مع فادي صقر، قائد ميليشيا الدفاع الوطني في دمشق، والمُتهم بالتورط في مجزرة حي التضامن، جنوبي العاصمة، وبالكثير من الانتهاكات، خلال قيادته لميليشيات “الشبيحة”، بعيد الثورة. وكان صقر هذا، قبل أن يتحول إلى “شبيح” بارز، مديراً لأحد فروع المؤسسة الاستهلاكية بدمشق. وهنا، وليس من قبيل المصادفة، كان أول استثمارات النعّال في مجال تأسيس “المولات”، استثماره لمستودع “الاستهلاكية” في مساكن برزة، والذي حوّله إلى “مول قاسيون”. وفي علاقة النعّال بـ فادي صقر، تفصيل آخر، يتمثّل في انخراطهما بشبهات فساد مع منظمات أممية، تحصّلا بموجبها على عقود بمبلغ يتجاوز المليون دولار أمريكي، عقدتها تلك المنظمات مع شركة مشتركة بين النعّال وصقر، تحمل اسم “صقور الصحراء”، وذلك وفق ما كشفه تحقيق يعود إلى العام 2022، أنجزه “مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية” و”البرنامج السوري للتطوير القانوني”، تحت عنوان “كيفية استفادة الشركات الخاصة المتورطة في انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا من مشتريات الأمم المتحدة من الدولة، وحصة التمويل التي تذهب إليها”.
أما على صعيد علاقاته الخارجية، فعقد النعّال صلات وطيدة مع كل داعمي النظام. فشبّك مع الإيرانيين، في عهد قيادة الصبّان لمحافظة دمشق. وارتبط بالروس عبر عضويته في المركز الروسي السوري للأعمال، وكذلك عضويته في مجلس رجال الأعمال السوري – البيلاروسي. من دون أن ينسى الصينيين، عبر ترأسه للجنة الصداقة البرلمانية السورية الصينية المشتركة.
لكن شبكات النعّال الأخطبوطية تلك، لم تقِه من متوالية تزاوج السلطة بالمال في سوريا. فأعفى النظام بشر الصبّان من مهامه كمحافظ لدمشق عام 2018، ووضع نهايةً درامية لحياة أحمد بدر الدين حسّون “الإفتائية”، بإلغاء منصب الإفتاء برمته، عام 2021. وحجّم، فادي صقر، بعد أن فاحت “رائحة” فساده وانتهاكاته، بصورة كبيرة. ولم تكن الخدمات “الجليلة” التي قدّمتها هذه الأسماء للنظام، كفيلة بتأبيد نهبهم للمال العام. فالأبدية في سوريا، لعائلة الأسد، وحدها. لذا لا بد من صعود متنفذين جدد، وعقد “زيجات” جديدة مع رجال أعمال جدد، نهمين بشدة لتعبئة الجيوب. من دون أن يعني ذلك أن “قدامى المحاربين” في سبيل المال والسلطة بما ينسجم مع “شريعة” الأسد، لن تكون لهم أدوار مستقبلية ما. فهم في معظمهم، يتقنون فنون إعادة تدوير أنفسهم، بصورة تقنع النظام بإعادة استخدامهم. وفي أسوأ الأحوال، إن لم ينجحوا في ذلك، فسينعمون بما نهبوه من مقدّرات السوريين، في سنوات تقاعد وارفة، بضوء أخضر من النظام ذاته.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت