المقارنة بين الحرب الروسية على أوكرانيا والحرب التي شنتها السلطة الأسدية على السوريين المناهضين لاستبدادها وفسادها وإفسادها مشروعة، بل وضرورية. ويمكن إجراء هذه المقارنة من جهة الأسباب والأبعاد والمواقف الدولية والإقليمية والمحلية، إلى جانب التبعات والنتائج المباشرة والمستقبلية، المنظورة منها والمحتملة.
من بين الأسباب التي تجمع بين الحربين الاصطدام العنيف بين نزوع المستبد نحو التحكّم والسيطرة؛ ورغبة الضحايا في الحرية والكرامة ومستقبل أفضل للأجيال المقبلة.وما يضفي أهمية خاصة، إن لم نقل جاذبية، على هذه المقارنة، العامل الروسي المشترك بين الوضعين الأوكراني والسوري، فروسيا في الحالة السورية ساندت سلطة بشار الأسد عسكريا منذ البداية، وغطّتها سياسياً في مجلس الأمن، وعملت على المستوى الإقليمي لتأمين الحماية للسلطة المعنية عبر التعاون مع إيران، وإدخال المليشيات التابعة لهذه الأخيرة إلى سورية، وعقد التفاهمات، في الوقت ذاته، مع الجانب الإسرائيلي، وتقديم الضمانات المطلوبة منه. وأذكر في هذا المجال أنّنا في لقائنا مع وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافرورف، في صيف عام 2012 ضمن إطار وفد المجلس الوطني السوري، قلنا له صراحة: إنّ روسيا تتحمّل المسؤولية الأخلاقية والقانونية في تزويد سلطة بشار الأسد بالأسلحة التي تقتل السوريين… وكان جوابه أنّهم يلتزمون بالعقود القديمة. فكان ردّنا عليه: ولكنّ بشار الأسد اليوم يخلّ بتلك العقود، فهو يستخدم هذه الأسلحة لقتل السوريين، لذلك لا بد من إعادة النظر في الموضوع… ولم نحصل سوى على الصمت جواباً.
لم يبدأ التزام موسكو بالمحافظة على سلطة بشار مع التدخل العسكري الروسي المباشر الذي كان في 2015، وإنما منذ اليوم الأول لثورة السوريين على السلطة المستبدّة الفاسدة المفسدة، بل ربما قبل ذلك وهذا هو الأرجح. في حين أنّ مجموعة أصدقاء الشعب السوري اكتفت بالشعارات، وبدعم مادي وعسكري محدوديْن لم يسهما في أيّ تغييرات نوعية على أرض الواقع. وفي هذا السياق، قد تكون مفيدة الإشارة إلى زيارتنا في خريف عام 2011 إلى نيويورك ضمن وفد المجلس الوطني السوري، حيث أجرينا لقاءات مع دول شقيقة وصديقة على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكان لنا لقاء مع سوزان رايس التي كانت مندوبة الولايات المتحدة في المنظمة الدولية. وتبين لنا أنّ الإدارة الأميركية لم تكن مستعدة لتقديم الدعم المطلوب للسوريين، رغم تصريحات كانت تُؤكّد ضرورة احترام إرادة السوريين وتطلعاتهم. مع العلم أنه كان قد مضى، حينئذٍ، على انطلاقة المظاهرات والاعتصامات السلمية في مختلف المدن والبلدات السورية نحو ثمانية أشهر تقريباً، تعرّض خلالها المتظاهرون للقتل والاعتقال؛ كما ارتُكبت جملة مجازر بغرض إرهاب الناس، وثنيهم عن التفاعل مع الثورة. وكان من الواضح أن الاستراتيجية المعتمدة من النظام تركّز على إلصاق تهمة الإرهاب بالثورة، وتشكيل انطباع زائف لدى الراي العام السوري والعربي والدولي مفاده بأن ما يجري في سورية إنما هو صراع بين السلطة “العلمانية حامية الأقليات” و”مجموعة من المتطرّفين الاسلامويين”، وذلك لوضع العالم أمام خيارين فاسدين: الاستبداد والاستقرار المفروض بالحديد والنار، أو الإرهاب المصطنع والفوضى الوظيفية المنظمة.
شرحنا لرايس مضمون استراتيجية السلطة الأسدية، وبيّنّا لها أنّ لدى هذه السلطة تجربة طويلة في ميدان استخدام سلاح الجماعات الإرهابية لتسويق نفسها ضحية الإرهاب؛ وهي سلطة خبيرة بتقديم نفسها، في الوقت ذاته، قادرة على مواجهة الإرهاب وتفكيكه. وكان رأينا أنّ مثل هذا الإرهاب سيجد التربة الخصبة طالما أن السلطة مستمرّة في ممارسة القمع المتوحش بحق السوريين، والمجتمع الدولي مستمرٌّ في صمته اللافت؛ لا يحرّك ساكنأ في مواجهة ما يتعرّض له السوريون.
وفي لقاءات أخرى مع مسؤولين أميركيين وأوروبيين، أكّدنا مراراً وتكراراً أن ما يحصل في سورية سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار والأمن الإقليميين، فسورية دولة مفتاحية في المنطقة، وما يجري فيها يؤثر مباشرة في العراق ولبنان ومنطقة الخليج. واستمرّ التصعيد، كما استمر تجاهل المخاطر، وحصل الروس في سورية على دور محوري عبر التفاهم مع الغرب وإسرائيل والإيرانيين. مع العلم أن روسيا، في ذلك الحين، لم تكن قد أصبحت روسيا التي أرادت ابتلاع أوكرانيا في أيام، ولا التي تطالب اليوم بنظام عالمي جديد ، تحظى فيه إلى جانب الأنظمة الاستبدادية الأخرى بدور فاعل في مختلف بقاع العالم.
ولبلوغ ذلك، لم تكتف روسيا بدعم الأنظمة الاستبدادية وحدها، بل شجّعت أيضا التيارات اليمينية المتطرّفة في الغرب ودعمتها، وراهنت، وتراهن، على الثغرات التي تعاني منها الأنظمة الديمقراطية، خصوصا في أجواء تنامي النزعة الشعبوية، وغياب القادة الأوروبيين ممن كانوا يجسّدون في مواقفهم وسياساتهم مبادئ إنسانية، ويشدّدون على أهمية ضمان مقوّمات العيش الكريم لسائر الناس من دون أي تمييز.
واستمرّ قتل السوريين وتهجيرهم، وتوجهت قوافل المهاجرين قسراً نحو أوروبا، الأمر الذي أدّى إلى تداعيات سياسية داخلية، نجم عنها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وإلى تنامي النزعات اليمينية المتطرّفة في إيطاليا وفرنسا والمجر والسويد وغيرها. وأعلنت التيارات المعنية بوضوح عن مواقفها المناهضة لتزايد عدد المهاجرين، كما ارتفعت حدّة الإسلاموفوبيا التي استفاد مروّجوها من ممارسات (وتصريحات) مهاجرين ممن اعتمدوا الإسلاموية أداة تعبوية في أوساط المهاجرين المسلمين في الدول الغربية.
وجاءت الحرب الروسية على أوكرانيا لتكشف عن نزوع واضح لدى حكم بوتين نحو محاولة استعادة تحكّم روسيا بالدول التي تعتبرها ضمن دائرة مجالها الحيوي، وفي المقدمة منها أوكرانيا. ولكن ما حصل في أوكرانيا أن بوتين أصطدم بموقف غربي متماسك قوي رافض لمشروعه الإمبراطوري. وقد تجسّد الموقف الغربي هذا في نهج فرض العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة على روسيا، وتزويد أوكرانيا بأحدث أنواع الأسلحة والتقنيات الضرورية، والمعلومات الاستخباراتية، والدعم المالي الضخم، لتكون قادرة على مواجهة الغزو الروسي، والصمود أمامه؛ على عكس ما كان عليه الحال في سورية. وبعد أشهر من الضغط الروسي المستمر، تغيرت الموازين على الأرض، واستعاد الأوكرانيون عبر الهجمات المعاكسة مساحاتٍ واسعة من أراضيهم التي كان الجيش الروسي قد احتلها وضمّها بأساليب استفزازية عنجهية، الأمر الذي أثار تساؤلات كثيرة بشأن إمكانات روسيا الفعلية، ومدى تحمّلها عمليات الاستنزاف التي تعرّضت، وتتعرّض، لها.
ولتجاوز نتائج تراجعاته، لجأ بوتين إلى تكتيك آخر سبق له أن جرّبه في الشيشان وسورية، تكتيك التدمير والترويع باستخدام الصواريخ والطيران. وفي إطار هذا التكتيك، جاء قرار تعيين الجنرال سيرغي سوروفيكين قائداً للقوات الروسية في أوكرانيا، وهو الذي عُرف باعتماده العنف المتوحش في سورية، وقبلها في الشيشان. ولم يكتف بوتين بذلك، بل دعا أيضاً إلى الاستفادة من خبرة العسكريين الذي كانوا في سورية، وهدّد باستخدام صواريخ فتاكة جديدة، وأشاد بالمسيّرات الإيرانية. وقد ألحقت الحرب الروسية على أوكرانيا، وستلحق إذا ما استمرّت، أشد الأضرار بالشعبين الأوكراني والروسي، بل والشعوب الأوروبية وشعوب العالم بأسره نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية، وانعكاسات ذلك على مختلف أوجه الحياة. ولذلك من الأفضل للجميع البحث سريعاً عن الحلول الممكنة التي من شأنها وضع نهاية واقعية لهذه الحرب المدمرة.
هل سيرضخ بوتين، في نهاية المطاف، لمنطق العقل، ويبدي استعداده الفعلي للإسهام في الوصول إلى حلٍّ ينهي محنة الشعبين، الروسي والأوكراني، ويطمئن الشعوب الأوروبية، ويبعد البشرية عن هواجس أفظع الكوارث، خصوصاً بعد ظهور إشارات أوحت باحتمالية وجود مقترح أوكراني للحلّ الممكن مع روسيا، ربما حمله معه الرئيس الأوكراني، زيلينسكي، إلى واشنطن في زيارته قبل أيام؛ وهي إشارات تتكامل مع تصريحات أميركية سابقة عن استمرارية الاتصالات مع الجانب الروسي بخصوص الموضوع نفسه، وحتى مع تصريحاتٍ ضبابيةٍ روسيةٍ في الموضوع ذاته؟ هذا رغم الوعود الأميركية بتقديم مزيد من الأسلحة النوعية لأوكرانيا، بما فيها منظومة الباتريوت، ومزيد من الدعم المالي، إلى جانب وعود دول مجموعة السبع، وذلك مقابل التهديدات الروسية التي توحي بالإحباط قبل أي شيء آخر، باستخدام أنواع متطوّرة جداً من الأسلحة الفتاكة ضد الأوكرانيين، والتلويح حتى بالأسلحة النووية التكتيكية.
كشفت الحرب الروسية على أوكرانيا، التي تقترب من نهاية عامها الأول، عن عقد كثيرة مكبوتة لدى الجانب الروسي الذي يشعر بالتضاؤل المستمر في حجمه ودوره مقابل التماسك الغربي، وتنامي النزعة البراغماتية في الجانب الصيني الذي من الواضح أنه اكتشف أن سر قوته يكمن في مد الجسور الاقتصادية والثقافية بعيداً عن الحروب التدميرية التي تهدّد بتحويل كلّ الإنجازات الحضارية إلى كومةٍ من الرماد في طرفة عين.
وتبقى الأسئلة المشروعة: ما موقع سورية من أي اتفاق محتمل حول الموضوع الأوكراني؟ وماذا عن خطر النظام الإيراني المستمرّ على دول المنطقة وشعوبها، بل على الشعب الإيراني نفسه، بعد أن تبين للعالم أجمع أبعاد الدور الإيراني في دعم العدوان الروسي على أوكرانيا؟ هل سيُنظر إلى الحرب الروسية على أوكرانيا بأنّها من نتائج تجاهل العالم لعدوانها على الشعب السوري؟ أم سيستمر التجاهل ليستمر العدوان؟ أسئلة مفتوحة تلخص مخاوف (وتطلعات) شعوب المنطقة التي عانت الأمرّين من الصراعات والحروب وقتامة المستقبل.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت