سواءً كان لطهران علاقة بقرار عملية “طوفان الأقصى” أو لم يكن فإن طهران فرضت نفسها عقب العملية شريكاً رئيسياً في قرار الحرب والسلم، بل انصبّ قسم ضخم من المجهود العسكري والدبلوماسي الغربي لردع إيران عن المشاركة في المعركة. الوقائع على الأرض تفيد حتى الآن بأن تبادل القصف على جبهة جنوب لبنان يبقى تحت السيطرة، فلا هو في منزلة التخلّي القاطع عن إشعالها، ولا هو في مرتبة التصعيد المتدرِّج نحو معركة كبرى.
في الغضون، لمّح مسؤولون إيرانيون إلى خطوط حمر ستضطرهم إلى الدخول في الحرب، من دون تحديد هذه الخطوط أيضاً، ما يضع تصريحاتهم في خانة الاستهلاك المحلي لأنصار محور الممانعة. إلا أن أقوالهم تكتسب بعض الجدية، غير الحربية، لمجيئها مدعومة بهجمات ميليشيات إيرانية على مواقع أمريكية في سوريا، ليبدو التحرّش بالقوات الأمريكية استئنافاً لإطلاق قذائف على إسرائيل من جهة الجولان.
وما يتوجّب الانتباه إليه في استخدام الساحة السورية أن أيدي طهران ليست طليقة في جهة الجولان، ولموسكو حسابات مختلفة مع تل أبيب، بل كانت العلاقة بينهما وبين بوتين ونتنياهو “خلال حكومته السابقة” في أفضل حالاتها، ولطالما أثار الصمت الروسي على قصف إسرائيل مواقع إيرانية في سوريا حنقَ أنصار المحور الإيراني. أي أن برود سطح العلاقات الروسية-الإسرائيلية حالياً لا يضمر موافقة على استهداف إسرائيل جدياً لاعتبارين؛ أولهما العلاقة التي تبقى رغم كل شي متينة ولها حساباتها الخاصة بوجود عدد ضخم من الإسرائيليين من أصل روسي، وثانيهما أن موسكو لا تريد الظهور عاجزة مقابل انفراد إيران بالنفوذ في جهة الجولان، والاتفاق هناك بين الطرفين غير ممكن إلا إلى الحد الذي يخدم الأولى لتطرح ضرورة وجودها كوسيط بين أطراف النزاع.
يختلف الأمر مع استهداف الميليشيات الإيرانية مواقع للقوات الأمريكية في شرق الفرات، إذ من المؤكد أن موقف موسكو يدعم أي استهداف للقوات الأمريكية، وربما يتخطى الرضا إلى تقديم معلومات استخباراتية أو دعم لوجستي للميليشيات سراً. بخلاف الظاهر والمنطق، قد تكون هجمات الميليشيات على المواقع الأمريكية في سوريا أكثر جدية من تلك المقذوفات الموجّهة إلى إسرائيل، وهذا ما يفسّر الرد الإسرائيلي الذي لا يفوق بالعنف غاراته المعتادة في سوريا، وإن كان لا يفسّر الرد الأمريكي المحدود أيضاً.
ثمة اختلاف آخر يجدر الانتباه إليه، ففتح جبهة الجنوب من قبل حزب الله ليس مصلحة إسرائيلية، رغم القدرة غير المشكوك فيها على إيقاع دمار هائل في الجانب اللبناني وفي غزة معاً. في المقابل، توسيع دائرة الحرب “باستهداف المواقع الأمريكية في سوريا” لا يبدو لمصلحة إيران، إذا كانت حقاً تريد الضغط على إسرائيل من دون إعطاء واشنطن ذريعة قوية “أو حتى إحراجها” كي تدخل الحرب. يلزم غشاوة سميكة جداً على الأعين للظنّ أن طهران غير عابئة، بل مستفيدة، بتطور المعركة إلى حرب عظمى.
تستفيد طهران حتى الآن، إذ يأتي الرد متناسباً مع حجم تحرشاتها، لا مع القوة الأمريكية العظمى، ليُفهَم منه وجود تحدٍّ إيراني يقابله “تخاذل” أمريكي. ومن المؤكد أن واشنطن لا تريد التصعيد، وقد سعت منذ البداية إلى احتواء المواجهة الحالية لتقتصر فعلياً على عزة، وهي تفهم جيداً الرسائل الإيرانية التي تؤشّر إلى التفاوض أكثر بكثير مما تؤشّر إلى الحرب. بل لا يمكن، ضمن ميزان القوى المعروف جيداً، أن تهدف هذه الهجمات إلى الحرب، خاصة مع وجود حالة استنفار قصوى لدى القوات الأمريكية في عموم المنطقة وتوافد المزيد منها.
منذ هجوم حماس في السابع من الشهر، راح يُستخدم تعبير “وحدة الساحات” بوصفه داعماً الحركة أو فلسطينيي غزة. ذلك في الوقت الذي اتجه فيه الردع الغربي لا إلى تفكيك تلك الوحدة المزعومة فحسب، بل أيضاً إلى حماية الاستفراد الإسرائيلي بغزة بلا قيد أو شرط. إن عملية التفاوض التي بدأت منذ الأيام الأولى للمعركة هي هنا، هي في الثمن الذي تريد طهران قبضه بتلويحها بوحدة الساحات، والتي يدفع أهالي غزة ثمنها الذي لا نجد وصفاً له لشدّة ما هو باهظ.
تعني وحدة الساحات لدى أنصار المحور الإيراني أن أي مكسب يتحقق في أية ساحة هو مكسب كلي، وهذا مقترن دائماً بالتصويب على خسائر العدو “أي عدو كان” مع الإعلاء من قيمة المكسب. وفي الواقع لا وظيفة منطقية لاستهداف المواقع الأمريكية في سوريا سوى الإشارة إلى المكان الذي تقبل فيه طهران الثمن لقاء قبولها ما يُدبَّر لغزة، أي أنها تريد من واشنطن ثمناً في سوريا. وكي لا يكون هناك شطط في التوقعات؛ لن يكون المطلوب انسحاباً أمريكياً تاماً.
لعل تخلّي واشنطن عن مواقع نفطية في سوريا، والإبقاء على قواعد عسكرية مع انحسار مظلتها التي تحمي قسد، يكونان بمثابة ثمن تطمح إليه طهران، ويصبّ ريعه في خزائن مؤسسة “خاتم الأنبياء” التي تتولى في سوريا تحصيل ما أمكن من الديون الإيرانية المقدَّرة بخمسين مليار دولار، بينما يُصرف الريع السياسي بوصفه انتصاراً على “الشيطان الأكبر”. وكي لا يكون هناك شطط مقابل، من المستبعد جداً أن تحقق إسرائيل أهدافها المعلنة في غزة، بل لقد بدأ التراجع عن بعضها فعلاً، وربما ينتهي المطاف “مثلاً” بالقضاء على حكم حماس، من دون القضاء عليها نهائياً كما توعّد قادة تل أبيب في الأيام الأولى لحربهم على غزة. وبطبيعة الحال هناك مَن يتحفّز إلى هذه الخاتمة ليعلنها نصراً فوق الأشلاء للمحور إياه، فقط لأن العدو لم يحقق سقف أهدافه المعلنة.
الاستثمار في القضية الفلسطينية عمره من عمرها تقريباً، وبالطبع ينبغي عدم التشكيك في دوافع الفلسطينيين “أو في أحقية التضامن معهم” رغم أن العديد من الأطراف استفاد أو سيستفيد من مأساة غزة. مثلاً تهليل الأسديين للحرب مفهوم لأن أخبار الوحشية الإسرائيلية تغطي على أخبار إدلب، وتُنسى مؤقتاً وحشية الأسد المستمرة منذ 12 عاماً. على صعيد متصل، تستفيد موسكو من الحماية الأمريكية للانتقام الإسرائيلي لتذكّر بأن حمايتها الأسد في مجلس الأمن ليست استثناء، وبأن واشنطن تدافع عن تجويع الفلسطينيين كما دافعت هي عن تجويع السوريين. وغداً، عندما يحين موعد انتهاء المعركة، سيظهر في رأس قائمة المستفيدين أولئك الذين يتاجرون بقضية القدس، من أجل الاستحواذ على نصيب من الطريق إليها ليس إلا. لنأملْ ألا يحدث هذا، وأن تعود صدارة المستفيدين لمستحقيها.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت