مات في منصبه، في مكتبه، بعدما أعياه المرض، وبلغ به حد العجز عن النطق والمشي. هو نوع فريد من التكريم للرجل، والتجديف بالموقع، الذي لم يكن يوماً صانعاً لسياسة سوريا الخارجية، المثيرة للجدل والشك في ما كان ينسب إليها من حنكة ودهاء أُمويين.
قد يكون الوفاء هو ما أبقى وزير الخارجية السورية الراحل وليد المعلم في منصبه حتى الرمق الاخير. لم يطلب إعفاءه عندما علم بإصابته بالسرطان قبل أربع سنوات. ربما خشي أن يساء تفسير الطلب، أو يساء تفسير الرد.ولم يرغب الرئيس بشار الاسد من جهته أن يبلغه بالحاجة الى التنحي، لكي لا يقال أنه تخلى عن آخر وزير مخلص من تركة أبيه، طالما أن الوزارة تعمل كالمعتاد، بنواب الوزير ومساعديه، وطالما ان السياسة الخارجية تمضي قدماً بالتفاهم والتنسيق المباشر مع موسكو وطهران ومبعوثيهما الدبلوماسيين والعسكريين والأمنيين المقيمين في سوريا،الذين يفضلون التواصل مع القصر الرئاسي، بدل المرور على مبنى وزارة الخارجية.
لعل صانع القرار السوري ظل يأمل بأن تتجدد الحاجة يوماً ما الى السفير والوزير الاقرب الى الاميركيين، الذي كانت ملفاته وأوراقه الشخصية تحفظ الكثير من الاسماء والافكار والحوارات الخاصة بالتفاوض مع إسرائيل، عندما كان كان سفيراً في واشنطن، يقصده كل مهتم أميركي بالمفاوضات،وينقل منه الرسائل المباشرة الى المفاوضين الاسرائيليين، ويعود بالردود المباشرة التي تنقل فورا الى قصر الرئاسة السورية.
من ذلك المكان، أطل المعلم على السياسة الخارجية السورية، وتحول الى مبعوثها الأهم، الذي يبشر بسلام الشجعان، ويترجم إستعداد سوريا لذلك السلام، فيمهد للقاءات ثنائية تمهيدية عديدة جرت في واشنطن، توجت بأكثر من جولة مفاوضات علنية مباشرة، وبأكثر من محاولة لاستئناف التفاوض، عبر أكثر من وسيط أميركي أو أوروبي أو عربي. لكن الفرص ضاعت لأن العروض الاسرائيلية كانت قاصرة أو خادعة، ك”وديعة رابين” الشهيرة التي لم يقرأها أحد من السوريين، ولأن صحة الرئيس حافظ الاسد وهواجس التوريث لم تكن تشجع على تطوير تلك الفرص.
مع رحيل الاسد الأب، بدا أن مهمة المعلم الأصلية قد إنتهت، وبات دوره يقتصر على الرد على أسئلة أميركية عامة عن إستعداد بشار للتفاوض والتصالح مع إسرائيل. فكان جوابه الاثير، أن الابن نسخة طبق الاصل عن الاب. هو جاهز عندما يكون العرض جدياً، برغم ان الجلوس الى طاولة مفاوضات جديدة ليس من أولوياته، في ظل حاجته الى تشكيل فريقه الخاص وترسيخ حكمه وتعزيز أدوات سلطته. وهو لم يرسل وفداً سورياً الى اسطنبول بعد الحرب الاسرائيلية على لبنان العام 2006، لمحادثات غير مباشرة مع الاسرائيليين إلا بتشجيع من الوسيط التركي.
عندما أعيد المعلم من واشنطن الى دمشق، حمل معه ذكريات لصداقات أميركية وأسماء إسرائيلية أكثر مما حمل وثائق وأوراق عمل. صارت المفاوضات من الماضي، وباتت جهود إستعادة الجولان للتاريخ وحده. ولم يبق منها سوى أن الرجل كان أكثر سخاء ووضوحاً من أي مسؤول سوري آخر، سواء عندما كان يجاهر بان بلاده مستعدة للتوقف عن دعم حركات المقاومة للاحتلال الاسرائيلي مقابل وعد جدي بحصولها على الجولان..وعندما كان ينسب إليه قوله أن بلاده جاهزة لنزع سلاح تلك الحركات وبينها حزب الله حال تقدم المفاوضات.
ولأنه دبلوماسي مكلف بطرق ابواب التفاوض مع العدو، لم تكن تلك الحركات ومنها حزب الله، تكن له الود او الثقة، وكانت تعتبر أنه يجتهد، بصفته محاوراً لواشنطن، ومفاوضاً لإسرائيل، في التعبير الذي يعكس قدراً كبيراً من المناورة، وليس الحقيقة. وهو دور إنتهى أيضاً عندما ساد الصمت على الجانبين الاميركي والاسرائيلي. وتحرر الرجل من ذلك الجدل، الذي مات قبل وفاته بكثير.
فور عودته الى دمشق، تحول المعلم الى وزير للاعلام أكثر من وزير للخارجية. كان صدى تصريحاته مسموعاً في بيروت، أكثر من سواها من العواصم العربية والاجنبية، لا سيما بعدما تولى مهمة إستجواب الرئيس رفيق الحريري قبل إغتياله بأيام.. أو عندما نقل دبلوماسيون أجانب عنه أن حزب الله إرتكب خطأ فادحاً في تفجير حرب العام 2006، ما إضطر سوريا الى تعبئة جيشها والاستعداد لمواجهة عسكرية مباشرة لم تكن جاهزة لها مع إسرائيل.
بعدها صمت المعلم طويلاً، حتى كانت الثورة السورية في العام 2011. عندما إنحدرت لغته الى مستوى كاريكاتوري مثير للشفقة، لا يتناسب مع تجربته، التي كان يفترض أنها لا تستدعي إستخدام تلك المفردات المضحكة عن الحرب الكونية وتفرعاتها الارهابية، وعن الخرائط الدولية الممزقة. لعلها كانت تعبر عن رغبة دفينة بتبديد الشكوك وتوكيد الثقة بانه لم ولن ينقطع عن الولاء المطلق للنظام.
هكذا أراد المعلم ان تكون خاتمته. وهكذا كان
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت